Friday, December 23, 2011

من دفع "سيلفا كير" إلى زيارة إسرائيل


     للذاكرة قدرة عجيبة على القفز في الزمان والمكان، فربما أعادتك رائحة وردة إلى زمن الطفولة، أو أعادك منظر طبيعي إلى سن المراهقة، لكن لهذه القدرة نوبات ترح وجولات فرح، ومهما أوتي صاحبها من قوة الإرادة، فلا يمكن له أن يتجنب تداعياتها السلبية أو الإيجابية مهما فعل.
    فمشهد "سيلفا كير"، رئيس دولة جنوب السودان الفتية !!!، وهو ينزل سلم الطائرة في مطار اللد، في فلسطين المحتلة، يركل ذاكرتك كي تعود بك إلى الوراء لأكثر من ثلاثين عاماً، يوم أن هبط أنور السادات سلم الطائرة في نفس المطار في اليوم التاسع عشر من نوفمبر عام 1977. يومها شعر العرب بأنهم طعنوا في الظهر من قبل رئيس الدولة التي كانوا يعولون عليها في نهضة عربية تجمع شمل أمة ممزقة، تفتش عن نفسها في أدراج قوى غربية مزقت أرضها، وشتتت شعبها في دول متنازعة متناحرة.
    غير أن شعورنا تجاه الزائر الأفريقي الجديد، يختلف عن ذاك الذي شعرنا به تجاه الزائر العربي القديم، ففي الوقت الذي صُبَّت فيه اللعنات على أنور السادات، لم أجد ما أصبه على "سيلفا كير"، بل اتجهت مشاعري ضد من كان السبب في تفتيت السودان، ذاك الذي تسلط على حكم السودان منذ اثنين وعشرين عاماً، إنه عمر حسن البشير، ذاك العسكري الذي انقلب على نظام حكم ديمقراطي، فاغتصب السلطة، وتمحك بالإسلام مستغلاً مشاعر شعبه المشهور بتدينه.
    هذا "البشير" حاكم مرتشٍ، أخذ من أكبر دولة خليجية مبلغ 50 مليون دولار مقابل تسليمه المناضل العالمي "كارلوس" إلى فرنسا، ذاك الذي كان قد التجأ إلى السودان بعلم حكومته، لكن عندما خشخش الدولار، نسي البشير المتأسلم الآية الكريمة التي تحض على إجارة حتى المشرك، فضرب بها عرض الحائط، وسلم من استجار به إلى القضاء الفرنسي، الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة.
    هذا "النذير" قرر تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، فكانت النتيجة أن انتشرت في السودان جميع الموبقات التي يحرمها الإسلام من انتهاك لحقوق الإنسان وخمور ودعارة ورشوة، لكن مأساة نظام هذا الديكتاتور لم تتوقف عند هذا الحد، بل وصل به الغباء إلى حد فرض تطبيق الشريعة الإسلامية على جنوب السودان، ذلك الإقليم الغني بثرواته المهملة، وتعدد الأعراق والأديان فيه، مما دفع الناس هناك إلى تكوين جماعات مقاتلة ترفض تطبيق شريعة لا تؤمن بها، وتدافع عن حقها في تطبيق شرائعها وعاداتها وتقاليدها،،، فعل النظام السوداني ذلك وهو يعلم تمام العلم أن النتيجة ستكون انفصال الجنوب، خاصة وأن نوايا إسرائيل والشركات الغربية الاحتكارية كانت تنتظر هذه الفرصة، فمنحها الديكتاتور إياها على طبق من ذهب، وبينما كنت أفكر في كتابة هذه الخواطر، طرأت على بالي فكرة تشبيه تطبيق الإسلام بسكين المطبخ، ، ، بها يمكنك أن تزهق حياة رجل، وبها يمكنك أن تقطع لحم عجل. 
    منذ مدة، شاهدت تقريراً تلفزيونياً كان يتحدث عن أكاديمية أمريكية من أصل عربي، كلفت طلابها بتحري تأثر الدستور الأمريكي بتعاليم الإسلام، وكانت المفاجأة التي توصل إليها الطلاب أن مكتبة "توماس جيفرسون"، رئيس اللجنة الخماسية التي كلفت بوضع الدستور الأمريكي، كانت تضم بين كتبها ترجمة دقيقة للقرآن الكريم، فكان من أهم بنود الدستور أن الناس متساوون بغض النظر عن اللون والعقيدة، إلى غير ذلك من القيم التي حض عليها الإسلام، ومع تقدير الباحثين إلى تأثر واضعي الدستور بالحركة الفكرية في أوربا، فإن المفاجيء كان أن الدستور الأمريكي نص على ضمان حق المواطنين في ذبح بعض أنواع الحيوانات إن كانت عقيدتهم تتطلب هذا النوع من الأضاحي، كجزء من عباداتهم، وفي هذا إشارة واضحة إلى أضاحي المسلمين في عيدهم الأكبر، والمراجع لبنود الدستور الأمريكي لا يستبعد هذا الاستنتاج الموثق علمياً، لذلك، ومنذ وضع الدستور الأمريكي، يتمتع كل من يعيش على الأرض الأمريكية بحقوق لا توجد حتى أقل منها بكثير في أكثر دولة إسلامية تدعي تطبيقها للإسلام. هذه هي السكين التي تقطع لحم العجل لكي تقيت الجوعى، أما السكين التي تقتل حتى الأوطان، فهي تلك التي استخدمها النظام السوداني لتقطيع أوصال الوطن السوداني، وذلك بتطبيق غبي لأحكام الشريعة على غير معتنقيها، وإن كان في الأمر عبرة، فهي إلى أولئك الذين لا يفرقون بين قتل الرجل، وتقطيع لحم العجل.
    لا أعتب على "سيلفا كير" أنه زار إسرائيل، بل أعتب على الغبي الذي دفعه إلى ذلك.
ملاحظة:  أنور السادات، الذي زار إسرائيل، وعمر حسن البشير،الذي دفع "سيلفا كير" إلى زيارة إسرائيل،  ضابطان عسكريان. ألا شاهت الوجوه.
23 ديسمبر 2011   

No comments: