Tuesday, December 6, 2011

احذر، أمامك حقل اتهامات دينية



    ذاك الذي يتجاوز حدود لافتة كتب عليها ( احذر، أمامك حقل ألغام ) هو واحد من ثلاثة: إما أمي لا يقرأ، أو يائس يبغي الانتحار، أو أحمق، وبما أنني لست واحداً من هؤلاء الثلاثة، فسوف أتجاوز تلك اللافتة التي كتب عليها (احذر، أمامك حقل اتهامات دينية)، هذه الاتهامات التي يسهل على الكثيرين توجيهها، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة التمحيص والتدقيق والتحقق مما هم بصدد صياغته وتوجيهه كتهمة.
    لا شك أن للدين – أي دين - عند أصحابه قداسة تصل بأتباعه إلى حد تحريم الاقتراب منه بالنقد أو التجريح، حتى ولو كان اقتراباً لا يمس الجوهر بحال من الأحوال، إذ لا يحق لأي كان أن يناقش نصوصاً يؤمن أصحابها بقدسيتها وكمالها، وهذا ليس بمستنكر على المتدينين، فحتى أصحاب العقائد السياسية والاقتصادية والاجتماعية يقيمون سوراً من التحريم حول مناقشة آراء زعمائهم التي صاغوها في نظريات وعقائد مختلفة، فمن ذا الذي يناقض الشيوعيين في مقولات ماركس وأنجلز ولينين؟، ومن ذا الذي يجرؤ على الخوض في مشروعية شعار البعث (وحدة، حرية، اشتراكية)؟، هذا مع الوضعي، فما بالك بالديني ذي القداسة.
    الموضوع الذي أطرقه الآن لا يتعلق بالدين، بل بالتديّن والمتدينين، فإذا كان الدين منة إلهية على البشر - يمتاز في جوهره بالكمال والتمامية، غير قابل للنقاش والجدل –، فإن التدين  صناعة بشرية بامتياز، يجهد المرء من خلالها إلى الاقتراب من المثل الديني الأعلى، وأنّى له ذلك،وبهذا فإن التدين(الذي هو صناعة بشرية قابلة للخطأ والصواب) هو مسألة شخصية بحتة، ينبغي ألا تكون قابلة للنقد والتجريح، لذا فإن ما أرمي إليه هنا ببساطة يدور حول فكرة أن المسافة الضيقة جداً، التي تفصل بين الحرية الدينية والديمقراطية الدينية، تسمح بتماهيهما بحيث يختلط الأمر على الناس، فيحسبونهما أمراً واحداً، وهما ليستا كذلك، ولذا تحتاج هذه الفكرة إلى مدخل يوضحها.
    لا شك أن هناك خلطاً مريعاً بين (الحرية الدينية) و(الديمقراطية الدينية)، فالأولى تعني حرية المرء في اختيار دينه، حتى لأولئك الذين ورثوا دينهم بالولادة، هذه الحرية التي كفلها الله تعالى بنصوص لا تقبل الجدل ( قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر- الكهف 29)، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة – هود 119)، (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم – المائدة 105)، هذه وغيرها من الآيات الكريمة تمنح المرء ملء الحرية لكي يختار، فالحرية الدينية بهذا المعنى هي مسألة شخصية بحتة، كفلها رب العباد للعباد، وبالتالي لا يحق لأحد التدخل فيها، ولا إنكارها على المتدين، ولا نقد أسلوبه في تديُّنه، فهي مسألة تتميز بالخصوصية بكل معنى الكلمة.
    أما (الديمقراطية الدينية) التي أقصدها هنا فلا تعني استفتاء الناس حول التزامهم بالنصوص الشرعية أو تغييرها إذا اقتضت الضرورة، فالنصوص ثابتة لا مجال للنقاش فيها أو حولها، وهنا تكمن الهنة التي يأخذها دعاة الدولة المدنية على المتدينين، الذين وضعوا أنفسهم في قارب الديكتاتورية عندما رفضوا قبولهم بالديمقراطية بحجة أنه لا ديمقراطية مع النص، وبذلك خلطوا خلطاً مريعاً بين الديمقراطية تجاه النص وتلك التي تجاه الناس، وهم بهذا قد وقعوا في حرج كانوا في غنى عنه، ولو تنبهوا إليه لشرحوا أنفسهم بشكل أوضح وأكثر إقناعاً ومصداقية، فإلزامية النصوص (أي ديكتاتوريتها) أمر منطقي ومشروع ولا خلاف عليه، إنما الخلاف على الذين يتجاهلون الآخرين، ويجعلون من رأيهم فيهم سيفاً مسلطاً على إراداتهم وقناعاتهم. 
    الديمقراطية التي أعنيها هنا هي وجوب التزام الناس باحترام بعضهم البعض في اختيار دينهم من جهة - وهذا أمر مقرر شرعاً وبالنص -، وأسلوب التدين الذي يتبعونه من جهة ثانية، وهي بالتالي تعني توقف البعض عن التدخل في ممارسة الآخرين دينهم التزاماً كان أم تفريطاً، إذ أنه يحلو للبعض التدخل في هذه الممارسات ومناقشتها ونقدها وتسخيفها، أو تصل إلى درجة تكفيرها، بل وحتى معاداة من يخالف بعض أحكامها، فهناك متنطح يسأل الآخرين:(هل تصلي؟)،(هل تذهب إلى المسجد في جميع صلواتك؟)، (لماذا لا تصوم  رمضان ؟) (هل تستطيع أن تنكر مشروعية تعدد الزوجات؟)، (هل تنفي أن الشرع يجيز ضرب الزوجة؟) (هل تدفع زكاة أموالك؟)  ( لماذا لم تذهب إلى الحج وأنت في هذه السن المتقدمة؟)، ( لماذا لا ترتدين الحجاب؟)، (هل تنكر مشروعية زواج المتعة؟)، وغيرها من الأسئلة ذات الطابع الاستفزازي، بحيث يضع السائل نفسه في منصب المسؤول عن تدين الآخرين وأسلوب ممارستهم هذا التدين، متذرعاً بحجة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك المبدأ الذي يمكن أن يكون مقبولاً مع الطفل أو الجاهل، أما أن ينصب أحد نفسه مسؤولاً عن سلوك الآخرين البالغين العاقلين الراشدين وممارساتهم، فهو نقيض الديمقراطية التي أدعو إليها، والتي أدعي لنفسي ملء الحق بأن أسميها ( الديمقراطية الدينية).
    باختصار: اختيار الدين والتزام التدين وأسلوبه، قضيتان شخصيتان بالمطلق، لا يجوز لأحد أن يتدخل فيهما، ويجب أن يكون شعار المؤمن الحق الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )، فإذا كان رب العالمين لم يأمر المؤمنين بالتدخل في شؤون الآخرين، حتى الضالين منهم، لحثهم على الإيمان (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر- الكهف 29)، فما بالك بالتدخل في شؤون المؤمنين الذين اختاروا أسلوبهم الذي اقتنعوا به في التدين؟. الحرية الدينية والديمقراطية الدينية منتجان بشريان، يتعامل بهما الناس، ولا لزوم للتمحك بالخلط بينهما وبين النص المقدس من قريب أو بعيد.
    والآن، أنا متأكد من أنني قد لا أنجو سالماً من تهمة قد تنفجر بي في أية لحظة، بعد أن تجاوزت بكثير تلك اللافتة التي تقول: ( احذر، أمامك حقل اتهامات دينية ).
  ديسمبر 5-2011

No comments: