Saturday, August 11, 2007


بغل أبي فيصل
(قصة قصيرة)

(طـريق الطنابر ) : درب ترابية تنحدر من سفح جبل قاسيون متغلغلة في أحشاء غوطة دمشق ، وعلى جانبيها أسوار من الطين تحمي المزروعات من عبث العابثين وعيون المتطفلين ، وأشجار جوز ضخمة انتصبت على الجانبين مشكِّلة بأغصانها الحانية وأوراقها اليانعة سقفاً أخضر أعطى الطريق شكل سوق الحميدية .

الوقت بُعَيْدَ ظهيرة يوم من أيام أوائل الصيف ، وموكب من عشرات الأطفال يندفع على الطريق الترابية باتجاه البساتين. أقدام الصغار تثير الغبار الناعم فترتفع غلالته الخانقة إلى ما يقرب من نصف قامة أشجار الجوز ، والشمس قد حَمِيَ شعاعها فاختلط عرق الأطفال اللاهثين بالغبار المتناثر على وجوههم ، مشكلاً طبقة من الطين الأصفر حيناً والأبيض في معظم الأحيان .

بدت لي الشمس ، وأنا في هذا الجمع الزاحف من أبناء حارتنا ، وكأنها تحاول استجلاء ما يجري على هذه الدرب الترابية . تنجح أشعتها أحياناً في التسلل بينهم عندما تتصلب الأرض تحت الأقدام الصغيرة ، فينعدم الغبار ، وتفشل أحياناً أخرى عندما تخترق أقدام الجموع طبقة من التراب الناعم فتثيره مشكلة سحابة كثيفة . نعم هي الشمس نفسها التي كانت أمهاتنا توصينا أن نقذف إليها بأسناننا اللبنية حين تسقط من أفواهنا ، طالبين منها أن تأخذ منا أسنان الحمير وتعطينا أسنان الغزلان ، ، ، نعم هكذا كنا نفكر أيام البراءة .

جموع الأطفال تتراكض دون أن تدري لماذا ، مع أنها تعلم إلى أين . بعض الأولاد امتطى حذاءً أو انتعل صندلاً ، والبعض الآخر لم يسعفه الوقت - عندما مر الموكب من أمام بيته - فقرر اللحاق بالجمع حافياً ، ظاناً أن المسافة لن تطول ، لكنه ، وعندما طال المسير ، لم يعد بإمكانه الرجوع لإحضار حذائه حتى لا تفوته فرصة مرافقة الموكب ، فاستمر في ركضه حافياً .

ولكن أيُّ موكب هذا ؟ . . قلة من الأطفال - وعلى الأرجح الصفوف الأمامية منهم فقط - كانت تعلم طبيعة وسبب هذه المسيرة ، أما الباقون فيبدو أنهم كانوا متطوعين في مهمة لا يعرفون عنها شيئاً ، باستثناء سماعهم وقع خطوات حصان يسير في المقدمة ، ساحباً وراءه شيئاً ثقيلاً ظهرت أثار جره واضحة على وجه الطريق .

طال المسير - أو هكذا لصغر سِنِّنا كنا نحسب - وبدأت الأعناق الصغيرة تتلفت إلى الخلف مراقبة بتوجس مكبوت بيوت الحي ، الملتصقة ببراعة على حضن الجبل ، تبتعد أكثر فأكثر . بعض الأولاد تخلف عن الركب وآثر العودة حتى لا ينشغل أهله عليه فيكون حسابه عسيراً إن هو عاد متأخراً ، والبعض الآخر صمم على الاستمرار في المسير ، رغم أن المسافة بدأت تتسع بينه وبين مقدمة الركب ، فجدّ للحاق به .

عندما كانت الطريق تنحرف يمنة أو يسرة ، كانت أسوار البساتين وأغصان أشجار الجوز تظلل رؤوسنا نحن الصغار فنَجِدُّ في المسير ، أما عندما كانت الطريق تتوازى مع أشعة الشمس ، فقد كانت حرارتها تلسع الرؤوس ، فيسيل العرق على الجباه من جديد ، ويعلو الطين الوجوه البريئة المتعبة ، فيمسحه الأطفال بالكم الأيمن تارة وبالأيسر تارة أخرى ، فتنظف الوجوه ولو مؤقتاً ، وتتوسخ الأكمام إلى أن يحين موعد غسيلها الأسبوعي .

بعد جهد وعناء كبيرين وصل الموكب إلى بوابة أحد البساتين ، وانعطف يميناً عابراً تحت قنطرة لقِدَمِها حَسِبَ كل من مر ّمن تحتها أنها سوف تسقط عليه . توقف الركب ، وتوزع الصغار يمنة ويسرة مشكلين حلقة بشرية ، الآن شاهد الجميع الحصان الذي كان يجر الشيء الثقيل ، الآن فقط علمنا أن هذا الشيء الثقيل لم يكن سوى جثة بغل ضخم . على جانب الحلقة البشرية وقف ثلاثة رجال غرباء عن الحي لم يتعرف الأولاد على أي منهم ، أما ذلك الرجل الرابع فقد فوجيء الجميع بأنه ( أبو فيصل ) ، بائع المحروقات الوحيد في الحي .

( أبو فيصل ) ، رجل في خريف العمر ، حنطي البشرة ، طويل القامة ، أحنت ظهره هموم السنين ، عيناه غائرتان وأنفه مستدق ، لا تسمع له صوتاً ، يتكلم همساً ويسير هوناً ، طيب وساذج إلى حدّ يبعث على الشفقة ، يعمل منذ ما يزيد على العشرين عاماً في بيع المحروقات إلى أهل الحي : في الصيف كان يبيعهم زيت الكاز للاستعمالات المنزلية ، وفي الشتاء يبيعهم المازوت ( الديزل ) للتدفئة واغتيال البرد ، زوجته عجوز طيبة مثله تصرّ نساء الحي على أنها تكبره بخمس سنوات ، وابنه شاب مقعد أصيب بالشلل عندما كان معنا في الصف الأول الابتدائي ، فانقطع عن الدراسة ولزم المنزل .

- : ( بغل أبي فيصل مات يا أولاد ) . صرخ أحد الصبية ، فران على الجمع صمت ثقيلٌ ثقيلْ . الآن وضحت القصة للجميع ، وسرت همسات بين الأطفال بأن هذه الكومة من اللحم الموشك على التعفن ليست سوى جثة بغل أبي فيصل .

كان بغلاً ودوداً كصاحبه ، ضخم الجثة على عكسه ، بني لون الجلد ، له لطخة بيضاء في جبهته ، كثيف شعر الرقبة ، ولولا ضخامة ظاهرة في فخذيه لحسبه الناظر إليه حصاناً أصيلاً ، شهد أهل الحيّ بذكائه . كان لا يكاد يلمح زبوناً واقفاً على الرصيف حاملاً صفيحة التنك حتى يقف بعده بأمتار قليلة ، موازياً الزبون مع مؤخرة عربة المحروقات دون تقديم أو تأخير ، فيشرع أبو فيصل في تعليق مكيال المحروقات على الصنبور النحاسي ، ويملؤه بالسائل ، ثم يقلبه في قمع كبير ثبته على فتحة الصفيحة المعدنية ، والبغل واقف في مكانه لا يبرحه ، وبمجرد أن ينتهي ( أبو فيصل ) من مهمته ، وبينما هو يقبض النقود من زبونه ، يتحرك البغل دونما حاجة إلى أية أوامر من صاحبه ، ويتقدم بانتظار رؤية زبون آخر. كان بغلاً ذكياً هادئاً استمد دماثة طبعه من طبع صاحبه العجوز .

وسط الحلقة كانت هناك حفرة كبيرة في الأرض صممت بحيث تكفي لابتلاع جثة البغل الضخمة ، وتحت أنظار الأطفال المرتعشين رهبة واستغراباً ، دفع الرجال الثلاثة جثة البغل إلى الحفرة بصعوبة بالغة ، فسقطت فيها محدثة صوتاً مكتوماً ، وعلت سحابة من الغبار حاول الصغار إبعادها بأكفهم عن وجوههم المتعبة ، حينذاك سُمِعَت شهقات من بعض الصبية الواقفين في الصف الأول من الحلقة البشرية ، أعقبتها دموع غزيرة تناثرت من أعين الجميع تأثراً بهذا المشهد الحزين . بحرقة بكى الجميع دون استثناء ، وحده ( أبو فيصل ) لم تسقط من عينيه دمعة واحدة ، وبدا وكأن دموعه قد تراجعت إلى داخل مقلتيه ، وانحدرت إلى حلقه فابتلعها بتجمُّلٍ واضح .

كان قلب ( أبي فيصل ) يعتصر ألماً ، فموت بغله يعني انقطاع دخله الذي لم يكن يكفي لتسديد نفقات معيشته وثمن دواء ابنه ، وبدون البغل لن يأتيه دخل ، وليس في اليد من المال ما يمكنه من شراء بغل جديد ، والأرجح أنه لم يحتط لهذه الحالة ، حيث لم يخطر على باله قط أن يموت بغلُه قبله ، ويبدو أن الدموع التي انهمرت من عيون الأطفال - والتي كان أبو فيصل يرقبها باستغراب وسعادة مكتومة - قد خففت ، إلى حدٍّ ما ، من مصابه في بغله .

بدأ الرجال الثلاثة في إهالة التراب على جثة البغل ، وما أن صرخ أحدهم طالباً منا المساعدة حتى بدأنا جرف التراب بأصابعنا الصغيرة وأظافرنا الطرية ، وما هي إلاّ دقائق حتى كانت الحفرة قد رُدِمَت تماماً ، وبدأ الجمع بالانسحاب التدريجي من السّاحة الحزينة .

بينما قفل الجمع عائداً إلى الحيّ ، لم يبق عند الحفرة سوى أبي فيصل وقد أشعل سيجارة أخذ منها نفساً عميقاً ، واضعاً يده في جيبه ، مطرقاً في يأس واضح ، بينما اختفت الشمس خلف الجبل مخلفة وراءها شفقاً أحمر أضفى على المشهد جلالاً ومهابة بحجم مصاب صاحب البغل .

مضى الصيف وحلّ فصل الشتاء وجاء معه موسم بيع المازوت وأبو فيصل لم يظهر بعد . إشاعات سرت في الحي تقول بأنه ذهب إلى ابن عم له في سهول ( حوران ) ليحصل منه على بغل جديد وانقطعت أخباره هناك .

بعد سنوات ، وعندما شارفنا على الانتهاء من مرحلة الدراسة المتوسطة ، جاءت الأخبار بأن أبا فيصل كان قد توفي في مستشفى المواساة منذ سنتين – بعد بغله بأشهر ، وربما كمداً عليه - ، ولما لم تكن عائلته تملك من المال مايكفي لدفع نفقات جنازته ، فقد تبرعت بجثته إلى قسم التشريح في كلية الطب .

معظم أولاد حيِّنا شاركوا في جنازة بغل أبي فيصل ، ويعرفون موقع دفن جثته ، بينما لم تُقَم لأبي فيصل أية مراسم دفن ، ولا يعرف له أحد قبراً حتى الآن .





No comments: