Tuesday, August 14, 2007

بيتزا

- آلو . . . مساء الخير .
ارتعشَتْ ، فأمسكَتْ سماعة الهاتف بشدة خشية أن تسقط من يدها ، وخوفاً من أن يهرب صاحب الصوت الذي انتظرته ثلاث سنوات كاملة دون جدوى ، لكن ها هو ذا صوته يرن في أذنها ثانية كأنه رجعُ صدىً لآخر كلمة قالها : " وداعاً " ، ثم رحل . الآن تحس بأن مائة قوس قزح تلمع في عينيها ، وألف ربيع يزهر في صدرها ، ومليون قمر ينير قلبها . تزاحمت في رأسها شلالات من الذكريات بسرعة مذهلة : يـاه . . . ثلاث سنوات زحفت ببطء فوق ذاكرتها وقلبها كأنها ثلاثة قرون ، لا بل ثلاثة دهور . لماذا كان قاسياً عليها إلى هذا الحد ؟أ لم يكن بإمكانه أن يقابلها ولو للحظات قبل مغادرته البلدة على عجل ؟ لماذا لم يشأ مناقشة الأمر معها بتروٍّ أكثر ؟ وهل يُعقل أن تفرقهما جملة من خمس كلمات قالتها جارةٌ يعرف الجميع أنها ثرثارة : " أظن أنها أختك في الرضاعة " ؟ ولْنفرض أنني أخته في الرضاعة - كما ادَّعت تلك المرأة الثرثارة - ، أما كان من واجبه التأكد من ذلك بنفسه عن طريق شهادات باقي نساء الحي ومن ثمَّ التصرف على ضوء ذلك ؟ أمْ كان في نفسه شيء فجاءه كلام الثرثارة مبرراً لكي ينفّذ ما في رأسه ؟ وهل كان يشعر بأنني قد فرضت نفسي عليه فرضاً ، فاغتنم أول فرصة للتخلص مني فهرب ؟ لا . لا. . أنا أعذره ، فلقد أذهلته المفاجأة التي حطمت بفظاظة بالغة قصر حلمنا الجميل الذي عشنا نبنيه معاً ثلاث سنوات كاملة : تقابلنا كثيراً - وبطهارة شهد بها جميع من كانوا على علم بعلاقتنا - ، وقضينا مع بعضنا الساعات الطوال نُحيكُ أحلامنا الصغيرة ، ونطرزها بآمالنا الكبيرة ، منتظرين حلول ساعة اللقاء الذي لن يفرقنا بعده سوى الموت ، ، ، حلمنا بالعش الذي سيضمنا ، وبالأولاد الذين سوف يملؤونه ضجيجاً وحيوية ، حلمنا بمشاريع كثيرة ناجحة بعد تخرجه من كلية الصيدلة ، وتخرجي أنا من كلية التجارة ، لكنه ، وفي ساعة نحس ، وبعد أن وصلت إلى أسماعه عبارة تلك المرأة الثرثارة ، آثر الرحيل ، وانقطعت أخباره : البعض قال أنه هاجر إلى دولة أوربية ، والبعض الآخر قال بأن أحد أقاربه شاهده في دولة خليجية ، آخرون تنبأوا بأن الصدمة دفعته إلى الزواج بابنة عم له واستقرا في دولة مجاورة . ولكن . . . وحتى على فرض أنه تأكد من باقي نساء الحي بأنني أخته في الرضاعة ، أ لم يكن بإمكانه أن يبقى هنا ؟ ، إذن لكنت له الأخت والأم والأب والأهل ، ولكنت خطبت له وفرحت به ( الآن دموعها تسيل بغزارة ) - وأشرفت على تربية أولاده ( تنهمر دموعها بغزارة أكثر ) - ، يكفيني أن يبقى أمامي ، وتحت ناظري ، فقد تعلقت روحي به بغض النظر عن العلاقة التي كانت ستربطنا : زوجية كانت أم أخوية ، بل . . وماذا كان يضيره لو اتصل بي ولو مرة واحدة طيلة هذه السنوات البليدة ليطمئنني عنه ؟ ، هل وصلت به القسوة إلى هذا الحد ؟ ، هل صرفه عني جمع الثروة من الخليج ؟ ، أم شغلته نسوة الغرب ؟ ، أم أخذته مني ابنة عمه التي لم يرها قط قبل زواجه منها ؟ . ولكن كل ذلك لا يهم - ( تكفكف دموعها ) - ، المهم أنه على الطرف الآخر من الخط ولابد أنه ما زال منتظراً أن أرد عليه ، يا ألله : نفس النبرة التي كان يخاطبها بها على الهاتف ، إنها أجمل " آلو " سمعتها في حياتها ، وعذاب السنوات الثلاث الماضية ما ذا يعني ؟ : ولاشيء . . . لا شيء البتة ، المهم أنه عاد إليها وهو ما زال منتظراً على الطرف الآخر . عندما سترد عليه ، هل سيعرف صوتها ، ذلك الصوت الذي لم يكن ينام قبل أن يسمعه قادماً من جهتها هامساً :- تصبح على خير ؟ ، هل غيَّرت عذابات السنين من نبرة صوتها فلن يعرفها الآن ؟ . انتبهت إلى أن دموعها ما زالت تبلل وجنتيها ، وتنبَّهت إلى أن غصة في حلقها ربما ستحجب عن أذنيه حلاوة صوتها ، ، تنحنحت وابتلعت ريقها الذي أحست بأنه قد جفَّ منذ رنَّ جرس الهاتف وسمعته يقول : " آلو . . . مساء الخير".

الآن تماسكت ، ، كفكفت دموعها وابتلعت ريقها مرة ثانية ، ، ردَّت بهدوء متكلَّفٍ يرتدي نبرة العتاب الرقيق : " مساء الخير " . . الرجل على الطرف الآخر يتلعثم ، وهي تعذره على موقفه الحرج هذا ، فبعد هذه السنوات الثلاث ماذا عساه يقول ، وبماذا يمكن أن يعتذر ، وهل سيطلب مقابلتها لإسماعها حججه التي ربما ستكون واهية وسخيفة ، ثم يطلب منها نسيان السنوات الثلاث بآهاتها وعذاباتها ؟ والأهم من ذلك هل ستقبل هي اعتذاره رغم كل ما لقيته نتيجة تسرعه ولا مبالاته ؟ لكنها - وهي التي انتظرته بفارغ الصبر ، وأقسمت أن تنتظره حتى ولو إلى آخر العمر - لابد أن تساعده على تحمل حرج الموقف فتضيف : آلو . . . نعم يا أحمد تكلم ، ما بِك ؟

الرجل على الطرف الآخر من الخط يقول باضطراب واضح : آسف سيدتي ، أنا لست أحمد ، أنا مدير المطعم ، ، لم يستطع موظفنا الوصول إلى منزلكم ، ، أرجو أن تعطيني عنوانكم بالتفصيل كي أرسل إليكم طلبية البيتزا ! !




No comments: