Monday, September 19, 2011


مرحباً بالشتاء
    شرفتي ذات نافذة عريضة، تطل على منظر يغوص بعيداً حتى يختفي خط الأفق في حضن السماء،،، في الخارج حفلة صاخبة أصغي إليها وأراقبها بفرح طفولي. من خلال زجاج النافذة يطل عليَّ وجه "إيليا أبو ماضي" شاعر المهجر العتيد، وقد كانت آخر مرة رأيته فيها على صفحات كتاب الأدب عندما كنت يافعاً في مرحلة الدراسة الإعدادية. يومها أطنب أستاذ الأدب وبالغ في كيل المديح لبيت أبي ماضي الذي عاتب فيه من اكفهر وجهه حتى بدا كالطبيعة عندما تتجهم:
قال السماء كئيبة وتجهما   قلت ابتسم يكفي التجهم في السما
    لم أشارك مدرسي إعجابه بذلك البيت، ولكن منذا الذي كان يجرؤ في ذلك الزمان على مخالفة رأي أستاذه ... جميع التلاميذ جاروا مدرسنا في رأيه، وبالغوا في إبراز عبقرية الشاعر عندما حذر المكتئب من محاكاة سماء الشتاء في اكتئابها. أشفقت على فصل الشتاء من كراهية الشاعر له، ذلك أنني كنت – وما زلت – معجباً بهذا الفصل الذي تنطق فيه الطبيعة بمئة لسان ولسان، وهاأنذا أزيح صورة أبي ماضي عن زجاج نافذتي كي أستمتع بهذا المهرجان الذي يجري على مد النظر:
     رب الطبيعة وزع الأدوار بإبداع على أبطال مسرحها، فقام كل منها بدوره على أكمل وجه: الرياح تنفخ أبواقها، فيتردد صداها في أرجاء المسرح،،، نقاط المطر الغزير تصرخ بجلاء مبشرة بأن موسم الخير قادم لا محالة، وقطراتها تنقر الأسطح والنوافذ بإيقاع رتيب عجيب، أو تسقط في حفرة امتلأت بسابقاتها، فأضفت على اللحن لحناً أعذب منه،،، الرعد – ضابط الإيقاع - يناوب طرقاته في أرجاء السماء، والبرق – مدير الإضاءة - يضيء أرجاء مسرح الطبيعة بومضاته الباهرة، فيبدو الراقصون، من أشجار وأعشاب طويلة، يتمايلون راقصين طربين فرحين بما يسمعون، كأنهم أشباح تتقافز،،، حفيف أوراق الأشجار يعلن طربه وحبوره هو الآخر، فيهمس في آذان الأشجار: أنْ هذا هو يوم الفرح المجيد،،، بضعة نوافذ وأبواب غير محكمة الإغلاق تصفق طربة بما ترى وتسمع ،،، فجأة تحاول الشمس إزاحة ستائر الغيم الكثيفة متسللة منها كي تتفرج على المشهد، لكن الرياح تنشط لإغلاق ستائر السحاب في وجهها، فترتد فاشلة خائبة، ويستمر العرض.
     هي حضرة مديح صوفية، تُقرع فيها الدفوف، وتتمايل أجساد الزهاد، وتعلو الأوراد من حناجرهم تمجد الخالق وتراه في كل ما خلق،،، إنه عيد الطبيعة، يوم تنطق عناصرها وتبوح مكوناتها بمكنونات أنفسها، علَّ ابن آدم يرى فيها قدرة الخالق وضعف المخلوق. هو فصل الشتاء الرائع ذي المئة لسان ولسان، فكيف ألام على عشقي له دون كل الفصول؟.

No comments: