Saturday, March 23, 2013

أفكار خبيثة


   
    في مثل هذا الوقت من بعد ظهيرة أي يوم من أيام الأسبوع ، تكون قاعة هذه المقهى مكتظة بالزبائن ، وهي كذلك الآن ، حيث أجلس محاولاً اغتنام هذا المهرجان البشري لالتقاط فكرة قصة أو قصيدة ، خاصة وأنه قد مضى عليَّ زمن خشيت فيه أن يكون قد نضب زادي وجف نبعي ، فأمسكت القلم محاولاً أن أبدأ كتابة شيء ، أي شيء ، فلم أفلح ، ومع أنني معتاد على الكتابة في أشد الأماكن والأوقات ازدحاماً وضوضاء ، إلا أن الصراخ الذي يحدثه هذان الطفلان الشقيان أفسد عليَّ جلستي ، فهممت بالانصراف لولا أن لفت نظري مشهد الوالدين وهما جالسين بصمت مريب .

    من خلف نظارة القراءة كان يتصفح جريدته ، ويرشف بين الفينة والفينة من فنجان قهوته ، على ملامحه بدت هموم سنين قوست ظهره فبدا في ستينياته مع أنني خمنت أنه في منتصف عقده الخامس ، أما هي فقد جلست خلف الطاولة المجاورة تعبث بكوب شاي تديره يمنة ويسرة بحركة تبدو عصبية إلى حد ما ، تختلس النظر إليه أحياناً ، وتتناوب عيناها بين الكوب وبينه ، وعندما تشعر أنه يلحظها خلسة، تشيح بوجهها متظاهرة بمراقبة الأطفال . يبدو أن جلستهما في هذه المقهى لم تفلح في تلطيف حرارة الخلاف الناشب بينهما ، بحيث أن كل واحد منهما يأنف أن يبادر صاحبه بالكلام ، بل اكتفيا باختلاس النظر إلى بعضهما البعض بمواربة واضحة .

    رن جرس هاتفه فالتقط المكالمة مديراً ظهره للمرأة ، أما هي فقد تشاغلت بمراقبة الأطفال ، مرخية أذنيها إلى مايقول علّها تكشف فحوى المكالمة ، فربما كانت والدته ، تلك التي عكرت عليها صفو حياتها منذ تزوجا ، تحاول – بعد أن لم تجده في المنزل - أن تستجلي مكان تواجده ، هل خالف أمرها فذهب برفقة زوجته وأولاده ، أم أصاخ لها سمعاً فخرج وحيداً من المنزل . أمه هذه ورثت عن جده مالاً وفيراً استخدمت منه جزءاً يسيراً في تزويج أبنائها الثلاثة ، واستخدمت جزءاَ آخر في تطليق الأخوين الآخرين وتزويجهما مرة ثانية ، وربما تحاول الآن تطليقها منه وتزويجه للمرة الثانية ، أما هو فرغم أنه يعلم مدى تسلط والدته ، غير أنه لم يكن قادراً على البوح بذلك حتى مع نفسه ، ولا بد منفذ كل رغباتها بلا تردد  أو نقاش . هكذا خمنت وقرأتُ كل ذلك في عيني وحركات المرأة ، تلك الجالسة خلف فنجان الشاي ، وهي تصغي بتلصص واضح للمكالمة التي يجريها الرجل وهو مدير لها ظهره بالكامل .

    ما كاد الرجل ينهي مكالمته حتى رن جرس هاتف السيدة ، فانتحت جانباً ترد على المتحدث بصوت أقرب إلى الهمس ، نظرتُ إلى الرجل فقرأت في نظراته المختلسة ألف سؤال حائر وسؤال : هل يمكن أن تكون هذه المكالمة من ابن عمها الذي كان على وشك الزواج بها قبله ، والآن بدأ يعيد علاقته معها بعد أن سمع أنباء عن احتمال طلاقها؟ ، وإن كان كذلك فكيف تجرؤ هي على استقبال المكالمة أمام زوجها؟ ، أم أن الفجور قد وصل بها إلى الحد الذي تغامر فيه بضياع زوجها وطفليها منها من أجل زواج قد لا يتم؟ ، ، ، ولكن ما ذنب هذين الملاكين البريئين؟ . صرخ الطفلان أثناء ردها على المكالمة، فزجرتهما بقسوة بالغة ، فحاول هو تهدئتهما بدون جدوى ، وازداد صراخهما ، واستمرت هي بالهمس ، وبعد دقائق – من المؤكد أن الرجل حسبها دهراً - أنهت المرأة المكالمة بسرعة والتفتت إلى الطفلين تؤنبهما على ما يقومان به والرجل يحاول أن يهديء من ثورتها ، ، ، لا ترد المرأة عليه وتستمر في تعنيف الطفلين ، ، ، يعود الرجل إلى متابعة القراءة وتعود هي إلى تدوير كأس الشاي بين يديها بعصبية ظاهرة ، وأنا متخفٍّ خلف فضولي أحاول استجلاء ما قد يقع .

     فكرت مراراً أن أتدخل للإصلاح بينهما من أجل هذين الطفلين اللذين سيدفعان ثمن خلافات أبوين أرعنين ، لكنني خشيت عاقبة ثورتهما عليَّ إن أنا تدخلت فيما لا يعنيني ، فماذا أنا قائل لهما لو اتهماني بذلك ، فقررت الاختباء حيث  أنا ، خلف رابية التطفُّل ، متلصصاً بنظرات ملؤها الترقب والتنبؤ لما سيحدث : هل ستحضر والدته الآن بعد أن علمت منه أن زوجته وأطفاله معه في المقهى؟، : إذن سيكون مشهداً لا يمكن أن أفرط به أبداً ، فصراخ الحماوات على زوجات الأبناء واحد من أروع المواقف اللا إنسانية التي تجسد العداء بين بني البشر ، وردود الزوجات على حمواتهن موقف من أكثر المواقف عناداً وتحدياً كذلك بين بني البشر ، وكأن الزوجة بذلك تنتقم من جميع الحماوات لجميع النساء المظلومات ، إذن لماذا أغادر المقهى الآن بعد أن فشلت في التركيز على موضوع قصة أو قصيدة ؟ ، أليس مايدور أمامي موضوعاً طريفاً لقصة شيقة ؟ ، فقررت الانتظار . ولكن : هل سيتهور ابن عمها ويحضر إلى هنا للقائها مع علمه بأنها تجلس مع زوجها الموشكة على الطلاق منه ، علّ هذا يعجل بذاك فيحصل على مبتغاه ؟ . إذن لابد سيكون هناك عراك عنيف،،، لكمات وصفعات ، كراسٍ تتحطم ودماء تسيل ، فهل أرسلتني العناية الإلهية إلى هذا المكان وفي هذا الزمان لكي أوقف جريمة تكاد تقع ؟ وهل سيُقيِّض الله أمراً يخفف به الأمر عنهما معاً فينصرفا بسلام ومحبة : لا حماة حقودة تنغص حياة ابنها وزوجته ، ولا شاب متهور يدمر حياة ابنة عمه وزوجها وأطفالها.

    تبادل الاثنان خلسة نظرات فيها الكثير من الكلام الصامت ، وحسبت أنهما سيبدآن الحديث بعد طول سكوت ، لكنه - وبهدوء واثق - طوى الجريدة وأشار بيده إلى النادل الذي أحضر له فاتورة حسابه ، فدفع قيمتها وانسحب برفق بعد أن مسح بحنان على رأسي الطفلين وحيى المرأة بأدب جم ، أما هي فقد دفعت حسابها بعد دقائق وانسحبت مع طفليها ، وتركني الاثنان لأفكاري السوداوية تنهشني بفظاظة عجيبة .

   الصدفة البحتة التي جمعتني بهما في هذا المكان الهاديء ، كانت هي نفس الصدفة التي جمعتهما على طاولتين متجاورتين، بسبب اكتظاظ المقهى ، أما أنا– صاحب الأفكار الخبيثة - فلم ينقذني من ذهولي، ويلقني خلف مقود سيارتي بسرعة البرق ، سوى صوت حماتي يرعد على الجانب الآخر من الخط : لاتنس يا محترم أن تحضر مبكراً هذا المساء ، لأننا سوف نكون جميعنا عندكم على مائدة العشاء .  

No comments: