Friday, February 1, 2008

ربطة خبز
(قصة قصيرة)

بقلم متهالك متقطع الخط يكتب على ورقة صغيرة الحاجيات التي يود شراءها من السوق هذا اليوم.هو ليس كغيره من الذين يقصدون السوق لشراء عشر حاجيات ثم لا يتذكرون منها في السوق سوى ثلاث،فلقد تعود على تنظيم شؤونه–سواء الصغيرة منها أو الكبيرة–منذ كان يعمل في شركة أجنبية،ومن إدارتها المنظمة الحازمة تعلم أشياء كثيرة مفيدة،ولولا الراتب التقاعدي الذي ما زال يتقاضاه من تلك الشركة التي عمل فيها خمس عشرة سنة-قبل أن تغادر البلاد بفعل الحصار–لما تمكن من تأمين حاجيات أسرته في زمن عزَّت فيه الحاجيات الأساسية،ناهيك عن الكمالية،ولوقف مع غيره من الفقراء على أبواب المساجد والحسينيات يطلب الصدقة.يتابع كتابة ما يخطر على باله من احتياجات اليوم،بينما يأخذ نفساً عميقاً من سيجارته،ونظرُه سارح عبر نافذة مشروخة الزجاج بفعل انفجار هز المنطقة بأكملها قبل أشهر،فالحي الذي يسكنه شمال العاصمة لم يشهد منذ الاحتلال – إلا نادراً - ما يشهده الوطن بأكمله من أهوال،لذا استمرت الحياة في هذا الحي تسير على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.

ينتبه إلى أن الورقة التي يكتب عليها قد حفلت بأشياء كثيرة ربما لن يمكنه الحصول عليها كلها دفعة واحدة،،يخرج محفظته التي كدس فيها آلاف الدنانير،مطمئناً إلى أن هذه الآلاف قادرة على تسديد متطلبات اليوم،،يهز رأسه أسفاً ، فمثل هذا المبلغ قبل سنوات ليست بالطويلة،كان يكفي لشراء منزل وسيارة ويضمن مستقبلا ً آمنا ً،أما الآن فهو بالكاد يكفي لزيارة السوق ولو لمرة واحدة،ولكن هكذا هي الحياة–قال في نفسه-كنقطة على محيط دولاب عربة:مرة ٌ فوق،ومرة ٌ تحت،طالما كان على العربة أن تسير.يتمعن في الورقة: الخضروات والفواكه تبدو كثيرة هذا اليوم،وسعرها في السوق-لشح الوقود وارتفاع تكاليف النقل-قد أصبح يضاهي سعر اللحوم،،يلغي بعضها ويبقي على صنفين فقط.أنواع الزيوت وغيرها من مستلزمات الطبخ تبدو كذلك مبالغاً فيه ،،يلغيها جميعها آملاً في سلق بعض البطاطا كوجبة غداء للعائلة،،الخبز لابد منه،فهو سيد المائدة،لذا يبقي عليه في القائمة،ولكي يضمن شراءه،لا ينسى أن يضع خطاً تحت عبارة:(ربطة خبز)،،ولكن،لعن الله الشيطان، فقد كاد أن ينسى تدوين اللعبة التي طلبتها منه دلال بمناسبة عيد ميلادها الذي يصادف اليوم ،،كانت غلطة كبيرة لم يكن ليسامح نفسه لو ارتكبها فنسي إحضار اللعبة،،(دلال) أجمل اسم نطقته البشرية في تاريخها. جاءته بعد زواجه من ابنة خالته،،يحاول تذكر سنة ولادة دلال: هو تزوج قبل الاحتلال بسنتين،وتأخر حمل زوجته سنة ونصف،أي أن زوجته قد حملت بدلال قبل الاحتلال بستة أشهر،مما يعني أن دلال قد جاءت إلى هذه الدنيا بعد الاحتلال بثلاثة أشهر وأربعة أيام.أخذ من سيجارته نفساً عميقاً آخر وسرح بنظره عبر زجاج النافذة المشروخ:يا ألله،كيف يتحول تاريخ يوم ثقيل على الروح والعقل والجسد إلى علامة فارقة نؤرخ بها الأحداث التي تمر بنا (أو نمر بها،،لا يهم): (عمه ذهب إلى الحج قبل الاحتلال بثلاث سنوات،وأمه سافرت للعلاج قبل الاحتلال بسنتين،وأخوه عاد من الخارج بعد الاحتلال بشهرين،وزوج شقيقته قتل في انفجار بعد الاحتلال بسنة ونصف،وهو تزوج قبل سفر والدته للعلاج بيوم واحد،أي قبل الاحتلال بسنتين،ودلال ولدت بعد الاحتلال بثلاثة أشهر وأربعة أيام):الاحتلال،الاحتلال،الاحتلال،،عجباً لهذه الكلمة الكئيبة،كيف احتلت مكانها:فاصلة بين الجمل،ونقطة مع نهاياتها؟.يدرك أنه قد سرح بعيداً عن الورقة والقلم، فيبادر إلى تسجيل(لعبة لدلال) مباشرة بعد(ربطة خبز) مع وضع خطين،وليس خطاً واحداً ، تحتها.

يجول في السوق بين أصوات الباعة الكثيرين والمتسوقين القلائل،،يمر أمام بائع الفاكهة والخضار،فيناوب نظره بين الأسعار المعلنة والقائمة التي في يده،فيشطب النوعين اللذين أبقى عليهما من الفاكهة والخضروات،فأسعارها لا تطاق،،يمر من أمام حانوت اللحّام، فيسارع إلى إلغاء اللحم من القائمة،،يتوالى تجواله بين المحلات،ويتوالى شطبه الحاجيات التي كان يأمل في شرائها.

الآن،،بعد الاحتلال بأربع سنوات وثلاثة أشهر وأربعة أيام،وفي يوم عيد ميلاد (دلال) الرابع ، يرى لآخر مرة في حياته ضوءاً شديد اللمعان،وينتهي كل شيء،،تغرق السوق في بحر من الدماء والفوضى،،أجساد البعض تتناثر لتلتصق بالجدران القريبة،،جرحى وجثث بالعشرات تتناثر على امتداد الساحة الواسعة،،صوت سيارات الشرطة والإسعاف تملأ المكان،ويبدأ أولاً نقل الجرحى إلى المستشفيات،بينما يبقى الأموات في أماكنهم بانتظار عدّهم ونقلهم إلى ثلاجات الموتى،فهم الآن قد أصبحوا أرقاماً فحسب،وهم بعد الآن ليسوا بحاجة سوى إلى التبريد،،رجال بثياب بيضاء يفتشون جيوب الضحايا قبل نقلهم،،أحدهم يخرج من جيب أبي دلال محفظة فيها آلاف الدنانير،وورقة حاجيات مشطوب على كل ما فيها باستثناء:(ربطة خبز،،لعبة لدلال).

No comments: