Tuesday, May 1, 2012

سميرة




    منذ مدة طويلة وهي تعبر خياله بإلحاح عنيد رغم أن أربعين سنة قد مرت على آخر لقاء  بينهما، وها هو ذا يركب الحافلة التي ستوصله إلى الشارع الذي كانت – وربما ما زالت – تقيم فيه ، والمطر في الخارج يهطل بغزارة يخشى أن تمنعه من الاهتداء إلى المنزل المقصود،، يقطع الوقت عابثاً بإصبعه ببخار الماء الذي تكاثف على سطح الزجاج البارد، يرسم دوائر وخطوطاً ثم يمحوها بكفه، ينفخ هواء رئتيه الدافيء لكي يعيد تكوين البخار على الزجاج، ثم يعبث به مرات ومرات ، وهو في هذه الأثناء يستعيد ذكريات العلاقة التي ربطته بها لأسابيع معدودة، ثم انقطعت لسنوات طويلة .

    تقابلا في رحلة جماعية إلى أحد المصايف الجبلية،، كانت صحبة شقيقتها ووالدتها، وخلال تلك الرحلة التي لم تتجاوز الساعات الثمان تعارفا، وشعر – وربما هي كذلك - كأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ سنوات الطفولة،، ما زال بعد كل هذه الغيبة الطويلة يتذكر جيداً ملامح وجهها البريء، وجديلتيها الغليظتين، والحلقات الكبيرة التي كانت تزين بها أذنيها مما أعطاها ملمحاً أندلسياً لا تخطئه عين. مع نهاية الرحلة  - وربما بإلحاح من سميرة - طلبت الأم منه أن يعطي ابنتها دروساً في اللغة الإنكليزية، فهو في بداية مرحلة الدراسة الجامعية، بينما كانت هي في نهاية مرحلة الدراسة الإعدادية. كيف سارت الأمور بعدها؟ يستمر في نبش ذاكرته، بينما يعبث من جديد بالبخار المتكاثف على سطح الزجاج،، ينظر إلى سطح كفه التي بدأ الزمن يطبع عليها بقعه السوداء إيذاناً بدبيب الشيخوخة إليه،، نفس هذه الكف التي سافرت مرات ومرات على سطح كفيها، أو قلَّبت معها صفحات كتب ودفاتر كانت تشهد على تصاعد الوجد في قلبيهما الصغيرين،، حنين سنوات العشق تتحرك في جوانحه، وأعطافه تهتز بعنف تأهباً للحظة لقاء انتظرها أربعين سنة.
    في ذلك الوقت لم يكن وضعه المالي والاجتماعي، ولا سنها الصغيرة، تسمح له بخطبتها والارتباط بها،، لا أحد يدري كيف تسير سفينة الحياة، ولا من أية جهة تهب عليها الرياح العاتية، تحملها في اتجاهات تعجز مهارة الربان عن السيطرة عليها، قال في نفسه:(خطوط حياتنا مثل هذه الخطوط التي على الزجاج البارد، تظهر وتختفي دون منطق يحكمها أو أسباب وجيهة تبررها)، لذا كان الفراق قدراً محتوماً، واستمر كل هذه المدة الطويلة، مدة أربعين عاماً، لكن وبما أنها كانت تزور خياله مراراً وعلى مدى هذي السنين الطوال، فإنه يشعر الآن بأنه لن يفاجأ عندما سيراها بعد قليل .

    ينزل من الحافلة أمام الشارع الذي يذكر أنها كانت تقيم فيه: نعم إنه نفس الشارع، مع ظهور عدد من المحلات التجارية على جانبيه،، شارع ضيق مسدود النهاية، تضيئه مصابيح باهتة أضفت - مع المطر الهاطل - مسحة من رهبة ممزوجة بالسكون،، يرفع ياقة معطفه اتقاء البرد والمطر، يُعرِّج على دكان بقال ويسأله عن بيت السيدة سميرة، فيشير الرجل إلى نفس مدخل العمارة الذي ما زال يتذكره،، حسنٌ،، كل شيء يسير حتى الآن على ما يرام،، يتحسس خطواته باتجاه باب العمارة،، نفس المدخل ذي الضوء الخافت، ومصباح صغير يضيء المدخل الموحش، وحواف الدرجات الرخامية قد تثلمت تحت وطأة الأقدام، فأصبحت مصيدة قاتلة لمن لا يحسن تحسس مواضع خطواته في الليالي المظلمة، وعليه الآن أن يصعد إلى الدور الثاني،، نعم الدور الثاني، مازال يتذكر ذلك بوضوح، أيامها كان يقفز الدرجات مثنى مثنى أو ثلاث ثلاث يسبقه قلبه قبل خطواته، أما الآن وقد ذهب الزمن بجلَّ نظره، وأوهنت السنون قوة عضلاته، فعليه أن يتحسس طريقه مستعيناً بحافة الدرج،، عندما ستفتح له الباب، سيسألها مستفسراً: هل هذا بيت السيدة سميرة؟، سترد بالإيجاب، عندها سيقول لها: وهل عرفتني؟ ربما ضعف نظرها فاستعانت بنظارة، سوف تتمعن فيه ثم تصرخ : يا إلهي،، أهذا معقول،، أهذا أنت ؟. عندها لن ينقص اكتمال المشهد سوى عناق حار، لكن ربما كانت متزوجة – وهذا مؤكد – إذن فالتقاليد هنا، غيرها في بلاد المهجر حيث يعيش، تتعارض مع هذا الأسلوب العصري في التعبير عن الشوق، لا يهم، المهم أن المفاجأة سوف تعقد لسانيهما، وبعدها فليكن ما يكون، ولتركب الأحداث أعلى ما لديها من مفاجآت.  
    فيما مضى كانت مربوعة القامة تميل إلى القصر، لكن نحافة جسمها كانت تضفي عليها مسحة من أناقة، فهل ما زالت كما كانت؟ أم تنتظره مفاجآت من نوع ما. وصل إلى الدور الثاني من البناء، تحسس إطار الباب باحثاً عن الجرس، فعثر عليه بعد لأْيٍ،، ربما كان هو نفس الجرس الذي كان يقرعه عندما كان يأتيها بحجة الدرس.
    رنين الجرس يدوي في الداخل، فتتسارع نبضات قلبه،، حركة أقدام تُسمع تتحرك خلف الباب،، فيصعد الدم بعنف إلى رأسه، مصباح يُضاء، فيحس باقتراب لحظة الحقيقة،، يفكر في الانسحاب من هذا الموقف الذي لم يكن يتوقع أنه سوف يغمره بكل هذا الكم من الاضطراب لولا خطوات ساكن تصفع وجه درجات السلم نزولاً، بحيث سيبدو لو انسحب وكأنه كان يسترق السمع على الباب. أخيراً يُفتح باب الشقة، فتنبعث من الداخل رائحة تبغ وقهوة وهواء ساخن وهمهمات باقي أفراد العائلة،، يظهر وجه امرأة عبثت به الأيام بقسوة: جبين مجعد ثلَّمته الأيام بشدة فتخدد، ووجنتين رخوتين سحبتا معهما أسفل العينين فبدتا أكثر اتساعاً وحملقة،، شفاه تتدلى وكأن صاحبتها مصابة بلوثة عقلية،، طول الجسم مساوٍ لعرضه، وخصر منتفخ مع ترهل في البطن نتج عن حالات حمل متكرر،، عينان زائغتان ترقدان خلف نظارة سميكة،،، ذراعان غليظتان برزتا عن جانبي الكتفين كأنهما ذراعا رجل الثلج،، نعم: من قصر قامتها عرفها،، هي بعينها، لكنها كائن هَرِم،ٌ دميمٌ، نِتاجُ زمن لا يرحم،، أخنى عليه الزمن، فانسحق تحت وطيء سنواته، وأثقلت عليه الأيام، فلم تُبْقِ له من الكائن الحي سوى نَفَسٍ يتردد في الضلوع.
     ارتعش بعنف،، تلجلج صوته، وشعر بأن الحلم الذي عاشه أربعين عاماً قد تبخر،، حاول أن يغادر هذا الموقف البائس ويهبط الدرج بأسرع مما صعده،، لكنه تماسك،، تنحنح بثقة، وبصوت خافت حاول جهده أن يكون وقوراً، سألها بأدب متصنع:
-  هل هذا بيت السيد عدنان يا أختي؟.
أجابت - تلك التي عاش يحلم بها أربعين سنة من حياته - بتذمر واضح وهي تغلق الباب:
    - لا يا أخي، أنت مخطيء  بالعنوان.

No comments: