Thursday, November 10, 2011

الأكراد والبليارد



    رغم اختلاف تسمياتها، وتنوع قواعدها، وبلاد منشئها، تبقى لعبة البلياردو متشابهة في كثير من تفاصيلها، وفي مقدمتها وجود منضدة، عليها كرات اختلفت أعدادها، وتنوعت المواد التي تصنع منها، وعصى لضرب الكرات ودفعها للاتجاه إلى جيوب مثبتة على جوانب المنضدة، ثم السقوط فيها، ولاعب أو أكثر يتناوب الإمساك بالعصا لضرب الكرات، لكن يبدو أن أهم الكرات التي على سطح المنضدة هي تلك التي يضربها اللاعب بالعصا لكي تصدم هي بدورها باقي الكرات، محاولة دفعها إلى الجيوب والسقوط فيها.
    ربما تكون هذه المقدمة طويلة مملة للوصول إلى القول بأن الكرة التي تستهدفها العصا في لعبة البليارد، تشبه إلى حد بعيد القوى الكردية المتواجدة على أراضي أربعة كيانات سياسية قوية هي العراق وإيران وتركيا وسوريا، حيث تقوم هذه القوى باستخدام الكرة الكردية ضد بعضها البعض. وربما كان من سوء طالع قبائل الكرد أنها نشأت وتوضعت في بيئة جبلية قاسية في غرب آسيا منذ أزمنة سحيقة، ونظراً لقسوة الطبيعة هناك، وانعزالها عن ساحل بحري، فقد أدى ذلك إلى انعزال القبائل الكردية، وتشتتها في جبال شاهقة ووديان سحيقة، مما أدى بالتالي إلى استحالة قيام دولة متماسكة تجمع شملهم، وتثبت كيانهم سياسياً وقومياً، فاشتراكهم في لغة واحدة، وبتاريخ أقرب إلى الأساطير، وبتوجهات عامة باتجاه هدف مشترك، هذه جميعها لم تمكنهم من تحقيق حلمهم بقيام دولة كردية، فالطبيعة القاسية كانت أقوى من جميع تلك الروابط، مما اضطر القوم إلى الخضوع للكيانات السياسية التي اجتاحت مناطقهم منذ فترة ما قبل الغزو المغولي، إلى ما بعد سقوط الإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية العثمانية، والاتحاد السوفييتي، وبعد نشوء الكيانات السياسية التي يتوضعون على أراضيها(العراق إيران - سوريا - تركيا) استمر الأكراد في مناطقهم، تفصلهم حدود تلك الدول، دون أن تلغي أحلامهم بقيام دولة واحدة تجمعهم.
    لكن الأخطر في حياة الأكراد كان تنافس الدول التي يقطنونها، وقيامها باستخدامهم ضد بعضها البعض، وباستثناء قيام دولة " مها آباد" الكردية شمال غرب إيران في أربعينيات القرن الماضي، ولمدة لم تزد على ستة أشهر، بسبب غياب السلطة المركزية للدولة الإيرانية، لم يتمكن الأكراد من الاقتراب من حلمهم التاريخي، وبالتالي كانوا دوماً على استعداد لأن يكونوا الكرة التي تحركها العصا الخشبية لكي تطيح بالكرات الأخرى خدمة لمآرب حامل العصا، أو بعبارة أخرى " بندقية للإيجار"، وكلما ضعفت سلطة الدولة في أي من تلك الدول الأربع، ازدادت قدرة الأكراد على قضِّ مضجعها، وبالتالي خدمة من يريد إلحاق الضرر بها.
    ففي ستينيات القرن الماضي، وبتجدد النزاع التاريخي بين العراق وإيران بسبب قيام حكم قومي في العراق بعد الإطاحة بالملكية عام 1958، دعمت إيران بقوة - معززة بالموساد الإسرائيلي - ثورة الملا مصطفى البرزاني في شمال العراق، وزودته بالمعدات وأجهزة الاتصال والمال والسلاح لكي يقض مضاجع الحكومة العراقية، وصور القادة الأكراد وزياراتهم  المتكررة إلى إسرائيل تثبت هذه الوقائع بما لا يدع مجالاً للشك أو الريبة، ورغم التعاطف العربي مع العراق( حيث أرسلت سوريا كتيبة عسكرية رمزية بقيادة اللواء فهد الشاعر للقتال مع العراقيين )، فقد تواصلت ثورة الأكراد إلى أن توجت – وللمفارقة- ليس بقيام دولة كردية، بل بإجبار شاه إيران العراقيين على توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975، تلك التي خسر فيها العراق السيطرة على كامل مياه شط العرب – النهاية الجنوبية لحدود العراق الشرقية مع إيران – فتقدم خط الحدود الإيراني إلى منتصف مياه الشط. نتيجة لذلك توطد نفوذ البرزاني دون أن يصل إلى حد إعلان قيام دولة، وبعد وخلال الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، توطد الكيان السياسي لإقليم كردستان العراق، وفي فترة التسعينيات، وفي أعقاب حرب الخليج الثانية وفرض الحصار الدولي على العراق ورفع الإقليم علمه الخاص به، انحسر النفوذ الإيراني عنه، مع تصاعد واضح للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي، كما شهدت تلك الفترة صراعاً مريراً بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم، وهما حزب مسعود البرزاني ( الديمقراطي الكردستاني )، وحزب جلال طالباني ( الاتحاد الوطني الكردستاني )، وكلاهما زعيمان تقليديان للأكراد، مارسا النفوذ القبلي من أجل الاستئثار بحكم الإقليم والسيطرة على موارده المتأتية أصلاً من رسوم الترانزيت وعمليات التهريب (أسلحة – بضائع - مخدرات)، ووصل الصراع بينهما حداً استقوى به الطالباني بإيران والبرزاني بصدام حسين العراق، ولم ينته هذا الصراع إلا بدخول المخابرات المركزية فعلياً أراضي الإقليم، لكي تنطلق منه باتجاه العاصمة بغداد، مستفيدة من حظر الطيران الذي حرم العراق من إمكانيات سلاحه الجوي لصد توجهات الأكراد وحلفائهم من القوى الغربية. وبعد سقوط النظام العراقي عام 2003، يبدو لي أن نزع فتيل الصراع بين البرزاني وطالباني قد حسمه الأمريكيون - ولو مؤقتاً - بفرض هذا الأخير رئيساً لجمهورية العراق.   
    في تركيا، ونظراً لتركز غالبية الأكراد في جزئها الجنوبي الشرقي، وبسبب الطبيعة الجبلية القاسية الوعرة،  فقد كانوا كذلك أدوات تحركهم دولتا إيران والعراق، وربما سوريا في بعض الأحيان. فخلال فترة انحسار نفوذ بغداد عن إقليمها الشمالي، كردستان، فقد نشط فيه حزب العمال الكردستاني التركي، الذي اتخذ من جباله المنيعة منطلقاً لمهاجمة القوات التركية، التي اتخذت من سياسة الهجوم على شمال العراق لمهاجمة قوات الحزب هناك سياسة ثابتة خلال تسعينيات القرن الماضي، كما أن سوريا حافظ الأسد قد ساهمت في دعم ذلك الحزب الكردي باستضافتها زعيمه عبد الله أوجلان، الذي انشأ معسكرات تدريب لرجاله في سهل البقاع اللبناني تحت إشراف سوري، واستمر إلى أن أجبرت تركيا الرئيس حافظ الأسد على التخلي عن أوجلان وطرده من سوريا ولبنان عام 1998، ثم ألقي القبض عليه في نيروبي بكينيا عام 1999.
    في سوريا: ربما كانت طبيعة الأرض السهلية، التي يقيم فيها الأكراد شمال شرق سورية، من المعوقات أمام قيام حركة كردية سورية مسلحة، على عكس ما هو عليه الحال في المناطق الجبلية في كل من العراق وإيران وتركيا، فجبال شمال شرق سورية في أعلى قممها( 550 متراً عن سطح البحر) هي أقل ارتفاعاً من مدينة دمشق ( 740 متراً عن سطح البحر ) وهذا مما ميز ميل أكراد سوريا إلى النضال الثقافي، وربما السياسي السلمي، والابتعاد عن خطى أقرانهم في العراق وتركيا وربما في إيران، علاوة على تمدد الأكراد على كامل مساحة الأرض السورية، مما أوجد بينهم نوعاً من الضعف القومي، فالكثير من أكراد سورية لا يتقنون التحدث باللغة الكردية، ويجهلون تاريخهم، كل ذلك علاوة على أن القبضة الأمنية الحديدية لنظام البعث في دمشق قد حالت دون قيام ما كان يمكن أن يصدر من أكراد الشمال الشرقي.
    في إيران، نجحت دبلوماسية شاه إيران في تدجين القيادات الكردية وتحييدها في صراعات دول المنطقة، بل إن دعمه لأكراد العراق قد جعله أقرب إلى قلوب أكراد إيران، والأكراد بشكل عام، وبعد قيام الثورة الإسلامية عام 79 كان طرحها الإسلامي نوعاً من مسكن هدأ من نفوس الأكراد الإيرانيين، علاوة على أن استمرار العداء الإيراني للعراق، كما كان عليه الحال زمن الشاه، قد أرضى الأكراد إلى حدٍّ ما، وحال بينهم وبين اللجوء إلى القوة المسلحة للمطالبة بحقوقهم القومية في إيران.
    تبدو تركيا وكأنها الطرف الوحيد من منظومة الدول التي يقيم فيها الأكراد، والتي لم تستفد من تحريكهم داخل البلدان المجاورة، بل لعلها تكون الدولة الأكثر تضرراً من محاولات دول الجوار الاستفادة من " الكرة الكردية "، واقتصار دور تركيا على الدفاع عن حدودها الجنوبية الشرقية، وتصديها لسياسات كل من العراق وسوريا وإيران الرامية إلى الاستفادة من الوجود الكردي داخل تركيا.
    في جميع الحالات، ومهما تغيرت العصا واللاعبون، تبقى الكرة المستخدمة في ضرب باقي الكرات هي الكرة الكردية: تُضرب هي بالعصا، وتَضرِبُ هي غيرَها من الكرات في نفس الوقت تقريباً.
 نوفمبر10/ 2011

No comments: