Saturday, November 5, 2011

هيكل: رجل عفى عليه الزمن




    في طريقها إلى تغيير الوضع السائد، لا تجرف الثورات في العادة النظم السياسية القائمة فحسب، بل إنها تعصف كذلك بأفكار ومفكرين. وفي ثورات الربيع العربي الحالية، انبهر العالم بأسره بما أنجزه الجيل العربي المعاصر من حراك عبقري، وبذله الروح والجسد في سبيل تحقيق أهدافه في الانعتاق من تحت حذاء حكام عسكر، وخلفائهم من أبناء أو أعوان، ورغم كم الإعجاب الذي حصل، فإن مفكرين ومنظرين عرباً قد سقطوا تحت سنابك أفكار تنتمي لعصر مضى أوانه، وخرجوا مرغمين من زمن لم يعد يتقبل أفكارهم وآراءهم التي ثبت بالممارسة الفعلية أنها صدئة وغير صالحة للاستهلاك الآدمي.
   " هيكل " الأستاذ - اللقب الذي يناديه به مريدوه، والذي يرغب هو فيه - أدلى بدلوه في الأحداث الجارية، فصعق الجمهور بحجم الخلل الذي أظهره في طروحاته، واستغرب الجميع كيف انقلب المفكر العروبي - الذي يملك كماً هائلاً من المعلومات المتعلقة بالتاريخ العربي، بل والعالمي المعاصر- ، كيف انقلب إلى مدافع مقنَّعٍ عن أنظمة زالت أو أخرى في طريقها إلى الزوال، يستطيع أي طالب مبتديء في العلوم السياسية أن يحاجَّهُ فيحرجه، ويناقشه فيفحمه، لا لشيء إلا لأنه بدا وكأنه يجدف عكس التيار، ويعيش في زمن غابر لا علاقة له باليوم. وربما شعر الرجل أن في استضافة قناة فضائية  مشهورة  له ما يمكنه من أن يقول فيصدَّق، وينظِّر فيُستمع إليه، متناسياً أن في الحياة خمس مصالح مرسلة أولها (النفس) والتي اتفق على أولويتها الفقهاء والأدباء والمنطق الإنساني.
في ليبيا: بدأ الأستاذ هيكل بتخطيء الليبيين عندما قاموا بثورتهم فاستجلبوا النيتو، واقترح عليهم لو كان صبرهم قد امتد إلى ما بعد الاثنين والأربعين عاماً السوداء التي قضوها تحت حكم لم يعرفوا فيه ليلهم من نهارهم، فقدوا فيها عشرات الآلاف من رجالهم بين قتيل وسجين ومفقود، ومئات الآلاف من الهاربين من جحيم حاكم مجنون، وربما كان الأستاذ سيؤيد الثورة، لو قدر له أن يعيش ليراها بعد خمسين عاماً، على حكام ليبيا من أحفاد سيف الإسلام القذافي، متجاهلاً حجم السحق والبطش الذي عانى منه الليبيون طيلة ما يقرب من نصف قرن، فقد كانت ( النفس ) الليبية آخر ما يهم القذافي الأب وعصابته من الأبناء. والغريب أن الأستاذ لم يدرك أن الثورة الليبية هي واحدة من أجل وأشرف معارك الإنسانية على جميع العصور،، هي ثورة لم تدون أحداثها في صفحات كتب كي نكذب مؤلفيها متهمينهم بالتزوير والدجل، بل رأيناها رأي العين يوماً بيوم وساعة بساعة على شاشات فضائيات تنام معنا في غرف نومنا، وتصحبنا في سياراتنا ومقاهينا،، ،، هم رجالٌ ثوار من دم ولحم، ومن جميع الأعمار،، ألم ير الأستاذ الجرحى من الثوار وقد ضمدوا جراحهم وعادوا إلى أرض المعركة؟،، ألم ير الشاب الذي أعطبت ساقه، فحمل العكاز بيد والبندقية باليد الأخرى وجرى يقاتل؟،، ثم: كيف ينسى الأستاذ تهديد ولي العهد سيف الإسلام باجتياح بنغازي، ومنها طبعاً اجتياح باقي المدن الليبية حتى الحدود المصرية، في خلال يومين اثنين؟، فماذا كان بوسع الليبيين أن يفعلوا؟ أن ينتظروا جحافل الجيوش العربية التي تحولت إلى كلاب حراسة حول قصور الحكام ومزارعهم وشركاتهم؟، أم ينتظروا المدد من الشعوب العربية التي تقبع رقابها خانعة تحت أحذية الحكام؟، في الفترة ما بين تهديد سيف الإسلام ودخول طيران النيتو، بماذا كان بإمكان الأستاذ – ومن يتبنون أفكاره - أن ينصحوا الليبيين؟، أن يصبروا ويصابروا ويدعوا الله في سرهم أن يهلك الطاغية؟، أولم ير الليبيون أهل غزة يموتون تحت الحصار العربي قبل الإسرائيلي؟، وألم يروا العراقيين يموتون تحت الحصار العربي قبل الدولي؟، فلماذا لا يعتبرون بما حل بغيرهم، وهذا ما حدث، ولولا تدخل القوة الإلهية – التي نؤمن بها ولا يستطيع أحد منا إنكارها – لتلكأت الجامعة في طلبها من مجلس الأمن معالجة الموقف، ولوقف الأستاذ أمامنا الآن لكي يحاضر عن " فشل الجامعة في حقن دماء الليبيين"، ولكي يتهم الليبيين بأنهم "استخفوا بتهديدات سيف الإرهاب القذافي، فاستحقوا ما جرى لهم على يديه". يتحدث الأستاذ ويطنب عن النهب المنظم المتوقع للنفط الليبي، فهل النفط في رأيه أغلى من الدم؟، وهل بناء البيوت والمصانع أهم من سكانها وعمالها؟، فليذهب النفط والزرع والضرع إلى الجحيم، وليحقن الدم، وماذا ومن سيفيد النفط لو ذهب الإنسان؟. ثم: هل هناك بترول عربي لا يخضع للشركات الغربية؟ ولماذا لا نكف عن اتهام الشركات الغربية بالطمع ونحن لم نستطع خلال نصف قرن أن نمتلك مصنعاً واحداً لإنتاج معدات النفط، وفشلت جامعاتنا في تخريج مهندسي نفط أكفاء؟، عجزنا عن تحقيق أي شيء سوى الفرقة والتمزق، ثم نأتي لنلوم الغرب على طمعه فينا، وقد حق – بسبب تخاذلنا - لدود الأرض أن يطمع فينا هو أيضاً. ألم يحن الوقت لكي نتوقف عن التشدق وننظر في المرآة لكي نرى المسؤول عن كل ذلك، متأسين بالمثل الصيني القائل:" إذا ساءت الأحوال فانظر إلى وجهك في المرآة "؟. بكل احترام وتقدير أقول للأستاذ: ما هكذا تورد الإبل ياسيدي.
في سوريا: يبدو أن الخلل لم يتلبس أفكار الأستاذ حول الثورة الليبية المعجزة فقط، بل وقع في نفس الزلل عندما قارب الثورة السورية الحالية، ويبدو لي أنه – مثل غيره – الذين خدعوا لأعوام طويلة بشعارات الصمود والتصدي، ودعم المقاومة، والعمل على تحرير فلسطين، وربما لم يكن الأستاذ هو الوحيد الذي خدع، فقد سبقه على نفس الطريق مفكرون ووطنيون أمثال عزمي بشارة ومصطفى بكري، الذين اعتقدوا لفترة ما بقداسة النظام السوري، ليكتشفوا فيما بعد أنهم كانوا واهمين، فعزمي بشارة خسر الإقامة في وطنه فلسطين من أجل عيون النظام في دمشق، ومصطفى بكري كان يكيل المديح في صحيفته " الأسبوع " لنظام دمشق المقاوم!، لكن بشارة أدرك الحقيقة ليس متأخراً، وربما أدركها أيضاً مصطفى بكري، لكن الأستاذ ما زال يصر على تضليله، وفي أحسن الحالات، ضلاله.
   فعند تناوله الثورة السورية، بدى أستاذنا وكأنه جالس في قاعة محاضرات معظم حضورها نائمون أو يتثاءبون،، قفز على الأربعين أو خمسين عاماً من حكم الحزب الواحد وكارثة التوريث، وبدأ يشيع فكرة خائبة تقول بأن النظام ما زال متماسكاً، بدليل " أن الطبقة البرجوازية في دمشق وحلب لم تؤيد الثورة بعد" ، وكأن الأستاذ – أو هو بالفعل – كان وما يزال غائباً عن الداخل السوري. فعبر أربعة عقود من الزمن، دجن النظام طبقة التجار، عن طريق الترغيب والترهيب:الترغيب بزيادة المنافع والمصالح، والترهيب بقطعها واستثنائهم منها، وبذلك تكونت طبقة من المنتفعين المنافقين الموالين للنظام، فقط حرصاً على استمرار مصالحهم. هيكل لم ير رجال الحرس القومي في شارع الصالحية وهم يخلعون أقفال المحلات التجارية التي أقفلت تنفيذاً لإضراب عام سنة 64، ووضعوا داخلها أفراداً من الحرس يبيعون البضائع لحسابهم الشخصي،، هيكل لم ير رجال أمين الحافظ يُخرجون المتظاهرين من حمامات الجامع الأموي بعد أن هربوا إليها من بين أيدي العسكر،، هيكل لم يسمع عن مدينة تجرعت الأهوال اسمها "حماة"،، هيكل لا يعرف أسماء سجون مثل المزة وصيدنايا وتدمر،، هيكل لم ير دبابات الجيش السوري تحتل جميع المدن السورية، محمية بالطائرات من الجو وبالبارجات الحربية من البحر،، هيكل لا يعرف بأن القابون وبرزة والحجر الأسود والميدان والقدم وكفرسوسة وقادسيا وركن الدين ودوما وحرستا وزملكا هي أحياء دمشقية، فإن كان لا يعتبرها كذلك، فإن أحياء الهرم والمهندسين وشبرا وحلوان ومصر الجديدة ليست أحياء قاهرية. هيكل لم ير شيئاً يستحق نقده سوى برجوازية دمشق وحلب، متناسياً أن شخصيات المعارضة جميعها، في الداخل والخارج، هي من المحامين والأطباء والكتاب والصحفيين والأدباء والفنانين، ومعظمهم خاض تجربة السجن لأعوام طويلة،، أليس هؤلاء هم لب الطبقة التي يتهمها هيكل بأنها ما زالت موالية، إلا إذا كان الأستاذ يعتقد بأن البرجوازية هي فقط طبقة التجار الذين ارتبطت مصالحهم مع وجود النظام، فهذا أمر آخر.
   على الأستاذ أن ينتمي إلى الدم العربي، وأن ينحاز إلى اللحم العربي، وعليه أن ينسى كل ما قرأه في الكتب من نظريات ثبت خطؤها، وليعلم بأن حرمة النفس مقدمة على أي شيء وكل شيء، ألم يقرأ الحديث الشريف القائل " لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم مسلم واحد " أم أن لدى الأستاذ موقف خاص من هذا الحديث الشريف أيضاً؟.على الأستاذ أن يعيد قراءاته جميعها، وليحاول أن يتعلم أبجدية جديدة يكتبها بالدم الجيل العربي المعاصر، والتي لا يعرف  حل كلماتها المتقاطعة إلا الذي يكتبها.  نعتقد أن على الأستاذ أن يتعلم حل الكلمات المتقاطعة المكتوبة بالدم، أو أن يعتزل قبل أن يعزل.                                     نوفمبر 4-2011

No comments: