Thursday, January 10, 2008


زهرتان في مقهى واحد
(قصة قصيرة)

" الغريب أن وزننا يخف عندما نحب ، والأكثر غرابة أنه يزداد خفة عندما نكون على
موعد مع الحب " . هكذا كانت تدندن روحها ، بينما سبقتها نظراتها بعشرات الأمتار وهي تسعى بشوق دافق وقلب خافق نحو موعد مع حب رتبت تفاصيله أسلاك الكهرباء ، نفس الكهرباء التي تملأ الشارع الذي تتهادى فيه الآن كأنها تمتطي بساط ريح سريع حمل عن قدميها عبء وزنها ، تتمايل من منعطف إلى آخر وعيناها تبحثان عن لافتة مكتوب عليها " مقهى الموعد " .

تعرفت عليه عن طريق التراسل الإلكتروني ، وقدم لها نفسه على الشاشة الزجاجية بأنه شاب يعاني من الوحدة بعد أن فشل في حبه الأول الذي توج بخطبته لتلك التي أحبها ، غير أن الفارق الكبير بينهما في التوجهات والاهتمامات والهوايات حال دون تمكنهما من إتمام مشوار الزواج ، فقررا طواعية التخلي عنه ، أما هي - هذه التي تلهث صوب المقهى - فقد أخذت دور الباحثة النفسية المتخصصة في شؤون العلاقات الأسرية .

بمرور الأيام وتوالي الرسائل الإلكترونية توطدت العلاقة بينهما ، وشعرا براحة نفسية لهذه العلاقة التي لم تصل إلى حد اللقاء الحسي ، بل استمرت عبر الأسلاك ، وعلى زجاج الشاشة الصغيرة . ما زاد في تعلقها به في تلك الفترة ، اضطراب العلاقة بين والديها ، فوالدتها الطبيبة شغلها الاهتمام بعيادتها ومرضاها عن الاهتمام بزوجها ، ووالدها الكاتب والصحفي المرموق ، لم يعد يحتمل إهمال زوجته الطبيبة له ، فدس ساعاته وأيامه بين الورق ، محاولاً أن يلغي وقته بشغل نفسه الأيام والليالي في عمله الذهني . لم يكن بين والديها خلاف جوهري حول أي من قضايا الحياة ، غير أن روتينها الجاف فرق بينهما ، حتى أضحى لقاؤهما على فنجان قهوة في مقهى هاديء حلماً بعيد المنال ، وبين الطبيبة والصحفي تاهت الابنة ذات الثمانية عشر ربيعاً ، فكان البريد الإلكتروني بالنسبة إليها عامل تسلية ، وممارسة لقتل وقت لزج في منزل علاقاته الأسرية ليست على ما يرام .

مضى على تعارفهما أكثر من ستة أشهر دون أن يطلب أحدهما رؤية الآخر ، ورغم أن كليهما كان يحاول جاهداً أن يتقمص شخصية مغايرة لواقعه ، إلا أن شعوراً مشتركاً كان ينبيء بأنهما يعرفان بعضهما البعض . ربما كان أسلوبهما في التفكير ، ونظرتهما إلى الحياة ، قد أوحى إليهما بأنهما من طينة واحدة ، إلا أن كل هذه المصادفات كانت غير ذات أهمية في علاقة بين خطيب فاشل وأخصائية في الشؤون العائلية .

تسرع الخطى ، وتدور عيناها بين اللافتات منقبة عن " مقهى الموعد " ، تبهر عينيها الزائغتين أضواءُ السيارات ، فتتوقف لحظات لتتبين معالم لافتة عبر الشارع ، " كلا ، هذا ليس مقهى الموعد ، ولا هذا ، ولا ذاك . . . يا الله لماذا نحن هكذا : نمر أمام المكان عشرات المرات ، وعندما نحتاج إليه تلف رؤوسنا وتدور ونحن نفتش عنه بلا جدوى ، هل يا ترى يفقد الشيء قيمته عند عدم الحاجة إليه ؟ وهل في الحاجة تكمن القيمة ؟ " ، واستمرت في الدوران في نفس مربع المباني الذي يفترض أن يكون فيه ( مقهى الموعد ) .

بعد ستة أشهر من الانتظار قال لها بأنه سوف ينتظرها في مقهى الموعد ، على الطاولة الثانية إلى يسار المدخل ، تلك الطاولة التي تطل على الشارع ، وسيضع على صدره قرنفلة حمراء حتى تميزه عن الآخرين ، مع أنه - كما قال - متأكد من أن عينيها سوف لن تخطئا عينيه اللتين تشعان تألقاً وحباً ، أما هي فقد أخبرته بأنها سوف تأتيه حاملة بيدها زهرة بنفسج ، وها هي ذي تحمل بين أصابعها المرتعشة زهرة ندية قطفتها من حديقة المنزل قبل دقائق معدودة ، وها هما - هي وزهرة البنفسج - تائهتان تفتشان عن المكان : مقهى الموعد .

هل يعقل أن تأتي متأخرة إلى موعد طال انتظاره ستة أشهر بحالها . . تجدُّ في البحث بين لافتات من جميع الألوان ، وتتناوب عيناها بين واجهات المحلات التجارية وبين ساعة يدها التي بدأت سريعاً الاقتراب من الخامسة ، وقد مضى عليها الآن أكثر من عشرين دقيقة وهي تبحث عن المقهى دون أن تعثر عليه . هل يمكن أن يكون حازماً في مواعيده فيغادر المقهى بعد الخامسة بدقيقة ، أم هل سيتمسك بالموعد معها كما تتمسك هي بزهرة البنفسج ، لكن فجأة يباغتها المشهد ، فتتسمر في مكانها . كانت أمام الواجهة الزجاجية للمقهى ، وكان هو هناك - على الطاولة الثانية إلى يسار المدخل - يتصفح جريدة . كان يرتدي سترة أنيقة ، وعلى صدرها تسلقت قرنفلة حمراء زادت من أناقة السترة . تراجعت إلى الخلف خطوات حتى تتأكد من أنه يضع قرنفلة حمراء ، نظرت بتركيز شديد كغزال شارد باغته ضوء ساطع فضاقت حدقتا عينيه وارتدّت رقبته إلى الوراء . نعم إنه يضع قرنفلة حمراء . والطاولة : هي الطاولة نفسها ، الثانية إلى يسار المدخل . والمقهى : هو المقهى نفسه ، تنظر إلى الأعلى وتتأكد : مقهى الموعد . بسرعة ترمي يدها خلف ظهرها لتخفي زهرة البنفسج . حمداً لله ، لم يرها ، تتراجع على عجل ، ثم تنفلت إلى أقرب هاتف عمومي في الشارع :
- أمي أمي ، أرجوك ، اصغي إليّ ، أنا بحاجة ماسة إليك ، أرجو أن تأتي إلي وأنت تحملين بيدك زهرة بنفسج . أنا في مقهى الموعد ، الطاولة الثانية إلى يسار المدخل ، لا تنسي : الطاولة الثانية على يسار المدخل .
- ابنتي ما بك تكلمي ، ما قصة زهرة البنفسج ؟.
- أمي ، لا وقت للحديث ، احضري حالاً ولا تنسَيْ زهرة البنفسج ، إنها
قضية حياة أو موت . لا تنسي : مقهى الموعد ، الطاولة الثانية إلى
يسار المدخل .
وقبل أن تنطق أمها بكلمة أخرى ، كانت هي تعيد سماعة الهاتف إلى
مكانها بنشوة عارمة لم تشعر بمثلها من قبل .

No comments: