نلتقي،،، فقط إذا عاد الربيع
انخلع من نفسه مستشعراً رهبة سرت في كيانه، فها هو ذا يقف على جرف هار، يستند برجل على إرادة يحسبها صلبة، وبالأخرى على رغبة يعرفها جامحة، والهوة السحيقة من تحته تجتذبه بعنف برّي متوحش، وهو نفسه ثالث بين اثنين: أحدهما يزين له الأمر، والثاني يشنّعه عليه .
(وماذا في ذلك؟) قال في نفسه: (في كل يوم تحدث مئات الملايين من مثل هذه العلاقة، وعلى مدار الساعة، وبين أصناف مختلفة من البشر:التقي والفاجر، الطيب والشرير، الغني والفقير، الكبير والصغير، ومع ذلك لم يختل الميزان). توقف عند هذه العبارة الأخيرة: الكبير والصغير. نصف قرن من السنين مسجلُ ديناً عليه من أصل رصيد عمره السري الذي لا يعلمه إلاّ الله، وهو يسحب من هذا الرصيد عاماً بعد عام، أحياناً كان يتلف الوقت، وأحياناً أخرى كان يتقن جيداً أصول استخدام زمنه، كما أنه يعلم جيداً أن الربيع وحده هو الذي يملك الأزهار المتفتحة، وأن الخريف لا يأتي إلاّ بتساقط الورق الأصفر، فكيف تبشره بربيع قادم؟ وما الذي سيقدر أن يحرك النسغ في أغصانه من جديد؟ .
يومها سألته إن كان يعرف شيئاً عن تفسير الأحلام. من لهجتها توجس خيفة، وأدرك أن وراء الأكمة ما وراءها. تماسك . . . شرح لها ببرود متصنع الأساس النفسي للأحلام، وحلق بعيداً عن الهدف الحقيقي من سؤالها، متجاهلاً ما اعتقد أنها مقبلة على البوح به وقد أحس به قادماً، عاصفة من وجد محرق، لن يجد عنده أخضر ليحرقه، بل سيذهب بما تبقى من اليابس. قالت بعد تردد مصطنع بأن رعشة لذيذة قد تملكتها عندما رأته في المنام ليلة أمس. ارتعش هو الآخر في أعماقه، فهل من مثله ما زال يقتحم أحلام الصبايا؟ . . واستمر يمثل دور المتجاهل لكل ما يسمع. قالت له وقد تجرأت على صمته: ”رأيتك تقبلني ها هنا ثلاث مرات”، ووضعت إصبعها على خدها الأيسر، تماماً في نفس مكان القبل الحلم، ثم تنهدت كأنها مازالت تعيش لحظات حلمها اللذيذ، أو كأن الحلم نفسه قد تحول إلى حقيقة ما زالت تعيشها إلى الآن. ابتلع ريقه، فلم يجد شيئاً ليبتلعه سوى كلمات كان يود البوح بها لو استطاع، لكن المفاجأة كانت قد عقدت لسانه، فصمت.وعندما ودعته، ضغطت على يده بنعومة قذفت في روحه ملايين الأخيلة، وولدت في دمه جرعات دافقة من رغبة جامحة عصفت بكيانه، وتركته في ذهول لا يدري كيف ولماذا حدث ما حدث .
ينظر بتوجس مكبوت إلى الساعة المعلقة على الجدار، فما بينه وبين أن تحضر إليه عشر من الدقائق فقط: ” ما رأيك لو زرتك لأحتسي عندك فنجاناً من القهوة فقط ؟ ” أردفت ” نعم قهوة فقط”. عندها تظاهر ببساطة العرض، ووافق عليه بثقة متصنعة. الآن ضربات قلبه تٌرى بوضوح تدق قميصه من الداخل، فيهتز قماشه كما لو أن قلباً آخر قد نبت داخل القماش. جفَّ حلقه، فاندفع إلى الثلاجة كي يزدرد كأساً من العصير . . لم يجد للعصير في فمه طعماً، ولا لبرودته إحساساً . تبلدت أحاسيسه جميعها، وتركزت في عينين شاردتين تتابعان في قلق قاتل عقرب الثواني في الساعة الجدارية وهو يجر خلفه عقرب الدقائق في سباق مجنون نحو موعد أكثر جنوناً .
وقف أمام المرآة ليضبط ربطة عنقه ويسرح شعره، فرأى حمرة الدم وقد غطت وجنتيه، ورعشة تتراقص على شفتيه،،، وضع نظارته ليتأمل صفحة وجهه المنفعل حد الرهبة. يشعر الآن أنه مقدم على ورطة لا يعرف تفاصيلها: كيف ستدخل عليه؟ وهل ستكون مجنونة في هذا اللقاء؟ أم أنها ستتظاهر بأن الزيارة – كما ادعت هي – ليست إلاّ لمجرد احتساء فنجان من القهوة، وتنتهي القصة؟، وهل أعقمت جميع مقاهي المدينة من رحيق النبتة السمراء، حتى لم يبق لها سوى شقته ؟ ، وهو – وإن كان يضمن نفسه إلى حد ما – فهل يستطيع أن يضمنها هي أيضاً؟ وكيف له أن يكبح فرساً في مثل عنفوانها لو جمحت بها الرغبة فصرعتهما معاً؟ .
عقرب الثواني في الساعة الجدارية ما زال يجري بنشاط واضح ، وعقرب الدقائق يهرول خلفه يحاول لاهثاً عبثاً اللحاق به، ووجهها يطل عليه من خلال صفحة الساعة الفضية: وجه رائع البراءة، زينته عينان نجلاوتان، علاهما حاجبان سيفيان، يحرسان حدقتين تشعان حلاوة وجمالاً، وأنف استدق نازلاً ليتقاطع مع شفتين مكتنزتين بلون الورد، تحيطان بعقد من اللؤلؤ.
أحس بتوتر شديد يعصف بكيانه، فأخذ يذرع الغرفة بقلق واضح. شعر بضيق في صدره، فأرخى ربطة عنقه، وفك أزرار قبة قميصه، ثم توجه إلى النافذة المطلة على الشارع عله يلمحها عن بعد. لم يكن هناك أحد في الشارع المزدحم،،، لم ير فيه أحداً على الإطلاق رغم ازدحامه! .
تراجع عن النافذة وجلس على كرسي هزّاز،،، أسند رأسه إلى الخلف، وضغط بقدميه على الأرض، فبدأ الكرسي حركته الرتيبة محدثاً صريراً شكل مع دقات الساعة الرتيبة سيمفونية مضجرة،،، حدق ملياً في السقف،،، لماذا لا يغادر المنزل الآن وفي هذه اللحظة بالذات، فينهي ما هو فيه من حرج قاتل؟، ولكن ماذا لو حضرت فلم تجده؟، هل سيبدو في نظرها جباناً ناقص الرجولة؟،،، هل ستتهمه بأنه استهان بزيارتها وأنوثتها فوجه إليهما إهانة مباشرة؟، إذن لماذا وافقها على هذا الموعد؟ ولماذا لم يتراجع عنه قبل الآن بكثير؟، وهذا الجدار المنيع من الوقار واحترام الذات، والذي بناه وتمترس خلفه طيلة سنوات عمره الطويل،،، هل سينهار ببساطة عندما ستقتحم عالمه الذي أقفله على نفسه بإحكام شديد، ومنذ أمد بعيد؟. (وماذا في ذلك؟) عاد ليقول في نفسه:( في كل يوم تحدث مئات الملايين من مثل هذه العلاقة، وعلى مدار الساعة، وبين جميع أصناف الناس، ومع ذلك لم يختل الميزان). طرأت على باله فكرة أخرى: لماذا لا يتجاهل صوت جرس الباب إن هي قرعته الآن، وبذلك يجعل من هذا الحاجز الخشبي خط دفاع يفصله عن مصدر الخطر، خاصة وأنه ليس لهذا الخشب الأصم قلب يرق لحال ولهانة تدق عليه بقوة عشق جارف. تخاذل أمام هذا الحل – أو بالأصح هو أراد ذلك – إذ ستكون متأكدة من وجوده، لأنها سيارته متوقفة أمام مدخل العمارة . . . هكذا بدأ يخترع لنفسه الحجج حتى لا يهرب من هذا الموعد اللعين. أشعل سيجارة – مع أنه لم يدخن منذ مدة طويلة – . . أحس بمرارة تفري حلقه، فأطفأ السيجارة بعصبية ظاهرة .
في الموعد المحدد تماماً قُرِع جرس الباب، وها هي المصيبة المحبوبة تأتيه سائرة على قدميها . لم يقفز قلبه من صدره كما توقع، بل تجمد مكانه، وأحس أن دقاته قد خفتت في رغبة ملحة للتوقف إلى الأبد. ما بينه وبين الباب أمتار أربعة، فكيف سيقطعها؟ قفزاً، مشياً، أم زحفاً؟ وهل ستستطيع قدماه حمله إلى الباب هكذا بسهولة؟ .
تحرك باتجاه الباب، فأحس بأنه يتدحرج على سفح شديد الانحدار. حاول التعلق بأي شيء وجده في طريقه عله ينقذه من موقف لا يرغب التورط فيه، لكن الانحدار يزداد حدة، ويشعر أن بداخله شيئاً ما يدعوه إلى فتح الباب. قال في نفسه:( وماذا في ذلك؟ في كل يوم تحدث مئات الملايين من مثل هذه العلاقة، وعلى مدار الساعة، ومع ذلك لم يختل الميزان)،،، الآن يحس وكأن دهراً قد انقضى منذ قرع جرس الباب، ولا بد أن يفتحه. أدار المفتاح بحركة شحنها بكل ما استطاع من مظاهر الجد والحزم. فاجأه وجه بائع الحليب محيياً: ”صباح الخير يا سيدي، هذا هو حليب الصباح”. اضطرب بشدة، ثم هدأت نفسه فجأة. تناول الزجاجة البيضاء . . . نثر في وجه بائع الحليب بضع كلمات شكر باردة، ثم أغلق الباب بهدوء، وعاد إلى مقعده الهزاز من جديد .
لم تكن هي التي قد جاءت . . حسن، لكن هذا يعني أنها ما زالت ستأتي بعد قليل. دخل ثانية في انفعال هزّ كيانه بعنف أكبر هذه المرة. تمنى لو توقف الزمن وتغيرت علاقات الأشياء ببعضها البعض. ماذا لو بدأت عقارب الساعة حركة عكسية، فبدأ الزمن بالتراجع قبل أن تصل بابه؟ . . . هل سيعود ربيعه من جديد؟ . . . وإن عاد جدلاً، فهل سيكون ذلك مشجعاً لها أكثر على اقتناصه في ذلك الزمن الندي من العمر؟ وماذا لو عاد الربيع؟، قال في نفسه للمرة الألف : (وماذا في ذلك؟ في كل يوم تحدث مئات الملايين من مثل هذه العلاقة، وعلى مدار الساعة ومع ذلك لم يختل الميزان)،،، انتبه إلى أنه أغرق في خياله، فعاوده التوتر من جديد، وبشكل أعنف من السابق، إذ لابد أنها ستكون أول من سيقرع عليه الباب بعد بائع الحليب.. أخذ بين يديه صفحات جريدة قديمة،،، حاول أن يتصفحها لقتل الوقت، لكنه أحس بأنه قد نسي القراءة، فطوح بها بعيداً عنه،،، برامج التلفاز لن تعمل على تهدئة نفسه، فهي تحفل صباحاً ببرامج الأطفال والأسرة،،، إذن ليس أمامه سوى الجلوس مع نفسه المضطربة انتظاراً لوصول زائرته الشقية.
رن جرس الهاتف، فتملكته رعشة خفيفة،،، تردد في رفع السماعة من مكانها، وليستمر هذا الهاتف بالرنين إلى ما شاء،،، لكن يده امتدت إلى الهاتف رغماً عنه:( وماذا في ذلك)،،، رفع السماعة إلى أذنه راجياً أن يكون هناك صديق ثرثار على الخط، عله يرفع عن كاهله عبء هذا الانتظار القاتل، فإذا بصوتها يأتيه قوياً واثقاً من الطرف الأخر، وبدون مقدمات أو مجاملات: (-آسفة على عدم الحضور في الموعد المحدد ياسيدي، فبعد تردد شديد، واضطراب في التفكير، وتشتت في الذهن، ورغم أن مئات الملايين من مثل هذه العلاقة تحدث كل يوم – ورغم ذلك لم يختل الميزان -، فقد قررت عدم المجيء)،،، وقبل أن ينبس بحرف واحد، تابعت تقول:(ومع ذلك ، آمل يا سيدي الحبيب أن نلتقي ذات يوم ، ، ، ذات يوم فقط إذا عاد الربيع).
أعاد سماعة الهاتف إلى مكانها بكل تؤدة ، وانتبه إلى نفسه وكأنه استفاق من كابوس ثقيل،،، أحس أن كل شيء من حوله يضحك – لا يهم له أم عليه ، ، لا يهم -،،، تهاوى على المقعد الهزاز بتهالك واضح ، وبينما غرق كل شيء حوله في ضحك مجنون اهتز له كيانه ، انخرط هو في بكاء مرير من شدة الفرح.
No comments:
Post a Comment