Thursday, September 27, 2012

أحسنت يا سماحة السيد، فقد نزعت الفتيل


    في مقابلة مع فضائية عربية، سَعِدَ جميع مشاهديها، على ما أعتقد، وعلى اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم، بحديث سماحة السيد محمد حسن الأمين، العلامة الشيعي اللبناني المتميز، فكانت أراؤه وأفكاره التي طرحها غيثاً أصاب أرضاً عطشى فاهتزت وربت، وبلسماً داوى جرحاً غائراً، فكاد أن يبرأ ويشفى. فمنذ ثلاثة ثلاثين عاماً، أصاب المسلمين شرخٌ في مقتل، فباعد بين مذهبيهم الرئيسيين: السني والشيعي، ذلك الشرخ بدأ مع الثورة الإيرانية عام 1979، التي لم تتردد في أن تعلن نفسها دولة للمذهب الإثنى عشري. في ذلك الوقت، وقت قيام الثورة، التف شباب جيلنا حولها، فآزروها وشدوا من عضدها، خاصة وأنها جاءت بشعارات تلامس شغاف قلوب المظلومين، وخاصة منهم الفلسطينيين، الذين يساندون كل من يقربهم من فلسطين ولو ميليمتراً واحداً، فكان طرد الإسرائيليين من طهران، ومنح سفارتهم لمنظمة التحرير الفلسطينية، واحداً من محفزات تأييد الثورة الخمينية، لكن الأيام أبدت لك ما كنت جاهلاً، فما هي إلا سنة أو نحوها حتى نشبت الحرب مع العراق في سبتمبر 1980، ومع ذلك استمرينا في غينا دون أن ندري، وكنا بحاجة إلى مرور عشرات السنين لكي نكتشف أن الهدف الأسمى من السماح بعودة الخميني من باريس وسقوط نظام شاه إيران، كان العمل على تقويض، بل والقضاء على دولة العراق، ورفعها عن الخارطة العربية. فبعد خروج مصر من الصف العربي بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد المشؤومة (الأم الشرعية لسيئة الصيت ”اتفاقية أوسلو”) عام 1978، لم يعد في الساحة العربية من قوة يمكن أن تحل مكان مصر في التصدي للعدو الإسرائيلي سوى العراق بقدراته البشرية والاقتصادية والعسكرية الهائلة، ولما لم يكن لشاه إيران شعبية داخل وطنه قادرة على مساندته في تدمير العراق، لذا كان لا بد من السماح بزوال نظام الشاه لكي يحل مكانه نظام ثوري يفدي أفراد الشعب الإيراني قائده بأرواحهم، ويكونون طوع بنانه، وهكذا كان، فبعد أن انتقل الخميني إلى فرنسا من العراق، حيث كان لاجئاً مطارداً من نظام الشاه، بدأ من هناك التواصل مع الجماهير الإيرانية عن طريق أعوانه وتسجيلات الكاسيت، والتي كانت في تلك الأيام تقوم مقام الفيس بوك وأشباهه من أنظمة التواصل الاجتماعي هذه الأيام، وعندما حانت ساعة الخلاص من الشاه، نقلت طائرة الخطوط الجوية الفرنسية الإمام الخميني من باريس إلى مطار مهرباد في طهران (ولم يقل أحد يومها أنه كان – حاشى لله – عميلاً للغرب). ورغم كل الدعم الذي تلقته إيران الخميني من الغرب ومن إسرائيل، والذي كشفته فضيحة (إيران – كونترا*)، حيث زودت الولايات المتحدة إيران بالأسلحة المتطورة التي شحنت إليها من إسرائيل**، رغم ذلك لم تستطع إيران هزيمة العراق، فاضطر الخميني إلى توقيع وقف إطلاق النار مع جاره اللدود في 8-8-1988 بعد أن قال قولته المشهورة:(لتجرع كأس من السم أهون علي من توقيع هذا الاتفاق)، وخلال حرب الثماني سنوات انقسم العرب بين مؤيد ومعارض لطرفي القتال، ولم يكن هذا جوهر القضية، بل إن استعار الصراع، ولو كان خفياً، بين السنة والشيعة كان هو الجوهر الحقيقي للأزمة، وازداد الأمر تعقيداً ببروز المطامع الإيرانية في دول الساحل الغربي للخليج العربي، خاصة بوجود أقليات شيعية فيها، ونظراً لوقوف إيران موقف المتفرج من تدمير جنوب لبنان في حرب 2006، وقطاع غزة في 2008، فقد تبين للجماهير العربية أن الادعاء بتبني إيران قضية فلسطين ودعم المقاومة لم يكن سوى وهم، وستار تدثرت به الأطماع الفارسية لتحقيق مخططاتها في المنطقة العربية، وبدأنا نسمع كلمات سني وشيعي تتكرر في حياتنا اليومية، فتلبست قلوبنا غمة مخيفة، وبدا في الأفق أن الصراع العربي – الإسرائيلي قد خرج من المعادلة الشرق أوسطية، ولو مؤقتاً، ليحل مكانه الصراع السني – الشيعي.

    وعودة إلى مقابلة سماحة السيد محمد حسن الأمين، فقد أورد فيها جملة من الأفكار والآراء التي لا يمكن التغافل عن أي منها، فهو:

- ينكر مشروعية الدولة الدينية، وفي رأيه أن الحاكم في هذه الدولة هو ديكتاتور بامتياز، لأنه يحكم باسم الله على الأرض، وهذا ما يناقض مباديء الحرية والعدل والديمقراطية، فالعدل والذي هو أساس الملك والحكم، لا يمكن أن يتوفر في ظل هذه الدولة، مما يفسح المجال لنا للقول بأن سماحته ينفي مشروعية نظام الخلافة، وهذا طرح لم يسبق له مثيل من رجال الدين المسلمين، باستثناء قلة قليلة – على ما أعلم – كالشيخ علي عبد الرزاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم- القاهرة 1925-).( ربما يذكرنا هذا الموقف لسماحة السيد من الدولة الدينية، بموقف بعض الحاخامات من قيام دولة إسرائيل على أنها تتعارض مع إرادة الرب).

- يقول سماحته بضرورة سحب الورقة الطائفية من يد أي نظام حكم يتستر بها، ذلك أنها تستعدي جزءاً من المجتمع على جزء آخر، وفي ذلك دمار للجميع.

- يميز سماحته، بإبداع ملفت ومبهر، بين الطائفية والمذهبية، فالشيعة عنده مذهب لا طائفة، وكذلك السنة، وهو يرى بأن كليهما يواجهان خطر فكرة الدولة الدينية، تلك التي لا مكان فيها للعدل.

- يؤيد سماحته بشدة ثورات الربيع العربي، لأنها ببساطة ترمي إلى تحقيق الحرية والعدالة وإقامة نظام ديمقراطي يتساوى فيه الجميع أمام القانون.

- عن الشيعة في لبنان، يقول بأنهم أقلية من ضمن الأقليات، وهم المتضررون – مثل غيرهم – من غياب الدولة، ولا مصلحة للشيعة في معاداة محيطهم العربي الإسلامي، لأن ذلك في جوهره معاداة للعقيدة الشيعية.

- من أجمل الأفكار وأكثرها تواضعاً، تلك التي وردت على لسان سماحته بأن تيار رجال الدين والمفكرين والمثقفين ممن يحملون نفس أفكاره، هم أضعف من أولئك الذين يمسكون بأيديهم زمام السلطة، لكنه يدعو إلى تحكيم العقل والمنطق في الحكم على الأمور، ويعتقد بأن انحياز هذه النخب إلى شعوب الربيع العربي سوف يقوي موقفها.

- بذكاء واضح، لم يبدر عن سماحته أي تصادم مع الدولة الدينية الإيرانية، غير أنه أكد بأن مثل هذه الدولة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، وإن كانت تحاول التمسح بأذيالها من حيث وجود الانتخابات وغيرها من مظاهر النظام الديمقراطي.

- يتهم سماحته الأصوليات الدينية من سنية وشيعية على أنها عناصر الثورة المضادة، التي تعارض النهضة الثالثة للعالم الإسلامي، تلك التي بدأت أولاها في العصر العباسي، وثانيتها مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وثالثتها مع ثورات الربيع العربي المعاصرة، ويصف تلك الأصوليات بأنها تعبير عن الضحالة والانكماش والرؤية البائسة لمفاهيم وقيم الإسلام، لأنها عنصرية دينية وطائفية، والدين ليس مجالاً لها لكي ترتع فيه.

- أخيراً: أبدع سماحته عندما قال بأن الشيعة هم سنة، وذلك لإيمانهم بأن سنة الرسول محمد (ص) هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، وأن السنة هم شيعة، لاصطفافهم إلى جانب الإمام علي بن أبي طالب، وتأييدهم له في مواجهة معاوية بن أبي سفيان في معركة صفين (وهذه النقطة بالذات هي التي كنا نحاجج بها إخوتنا من المذهب الشيعي، ونزيد عليها أن المذهب الشيعي بأصله الديني، والذي يفترض أنه صواب بالجملة، لا يجوز له أن يتحمل وزر أخطاء الدولة، من حيث أن السياسة قابلة للخطأ كما هي قابلة للصواب). فكرة سماحة السيد، هذه الأخيرة بالذات، هي التي يحتاجها مسلمو هذه الأيام من كلي المذهبين حتى ننتهي من هذا الصراع السخيف، وهي الفكرة التي يبحث الناس عنها منذ عصور طويلة، فجاءت اليوم على لسان رجل دين ذي قيمة كبيرة، هو سماحة السيد محمد حسن الأمين.

عند انتهاء المقابلة مع سماحة هذا السيد المحترم، شعرت بأن فتيل القنبلة، تلك التي توشك أن تنفجر لكي تدمر المسلمين جميعاً سنة وشيعة، في طريقه إلى التفكيك والإبطال، لذا كم كان بودي لو استطاع سماحته أن يسمعني وأنا أقول له: أحسنت يا سماحة السيد، فقد نزعت الفتيل.

----------------------------------------------------------------- 
*- (إيران – كونترا): مصطلح أطلق في الثمانينيات من القرن الماضي، زمن الرئيس ريغان، على فضيحة بيع الولايات المتحدة أسلحة لإيران، نقلت إليها عن طريق إسرائيل، واستخدم ريعها في دعم منظمة (الكونترا) اليمينية في نضالها ضد حكومة (السندنيستا) اليسارية في نيكاراغوا.
**- وتبين الوثائق أن السلاح الإسرائيلي كان يرسل إلى إيران منذ بداية الحرب العراقية  الإيرانية. للمزيد من الاطلاع على هذا الموضوع، يمكن مراجعة الروابط المثبتة في نهاية المقال المرفق رابطه أدناه:            
         http://www.albasrah.net/ar_articles_2010/1210/iran_jeet_231210.htm

No comments: