الإرشاد الرسولي: وثيقة تاريخية جاءت في وقتها
بداية، وقبل أن تغرز في جسد مقالي هذا سهام من لن يعجبهم كلامي، أود أن أذكر الجميع بالآية رقم 82 من سورة المائدة، التي يقول الله تعالى فيها:(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)، وهذا المدخل هو الذي سيضفي على هذا المقال نوعاً من المصداقية التي لا يمكن لعاقل أن يشكك بها.
فالإرشاد الرسولي، الذي وقعه البابا بنديكتوس السادس عشر اثناء زيارته الحالية إلى لبنان، هو أحوج ما تحتاجه منطقتنا العربية هذه الأيام، وذلك على ضوء المحاولات الخبيثة الهادفة إلى تدميرها عن طريق بث الفتنة بين مسيحييه ومسلميه، بعد أن نجحوا جزئياً في بثها بين السنة والشيعة، ولو استعرضنا بعض ملامح هذا الإرشاد، لبهرنا حجم العالمية التي تضمنها:
- فمن حيث الأحداث الجارية في بعض البلاد العربية: وضع البابا نفسه في صف المنتفضين العرب على دكتاتورياتهم البغيضة، فرحب بثورات الربيع العربي، وربما كان موقفه هذا متقدماً جداً على الكثير من مواقف بعض العروبيين والإسلاميين، خاصة عندما أعلن بشكل لا لبس فيه وقوفه مع الشعب السوري.
- وفي حديثه عن مسيحيي الشرق: أكد – وهذا توضيح لواقع تاريخي لا ينكره أحد – بأنهم جزء أصيل من التركيبة الدينية والاجتماعية والسياسية لهذا الشرق، فمما لا شك فيه أن إخوتنا المسيحيين في بلاد الشام والعراق وشمال أفريقيا هم أبناء عمومة، دفعهم فقر جزيرة العرب إلى الهجرة منها منذ قرون موغلة في القدم، وقد خضع هؤلاء قبل ظهور المسيحية لحكم القوى الكبرى التي سادت في تلك المناطق كالكلدانيين والآشوريين والفرس واليونان والرومان، وبعد ظهور المسيحية على أرض فلسطين، دفع مسيحيو الشرق – وفي مقدمتهم مسيحيو فلسطين – ثمناً غالياً تحت الحكم الروماني من أجل التمسك بعقيدتهم، ووفاء لتعاليم السيد المسيح عليه السلام، فطريق الآلام الذي مشى فيه السيد المسيح حاملاً صليبه على كتفيه، استمر المسيحيون يسيرون فيه ويتعذبون بعذاباته، ويلقون الويلات على أيدي مستعمريهم الرومان، ومن ثم كان عليهم أن ينتظروا حوالي ثلاثة قرون حتى يعترف الإمبراطور قسطنطين عام 330م بالمسيحية، فتصبح الدين الرسمي للدولة الرومانية، ولولا تضحيات مسيحيي الشرق، لما وصلت المسيحية إلى شعوب الغرب. إذن دعوة البابا في إرشاده الرسولي المسيحيين للبقاء في بلدانهم، وعدم الهجرة منها، والتوقف عن بيع أراضيهم، هي دعوة وطنية بامتياز، والتعايش الذي ساد بين الأديان في هذه المنطقة عبر تاريخها يشهد على زيف غير ذلك من الادعاءات.
- وامتداداً لتكريس وطنية مسيحيي الشرق، إخوتنا في الوطن والمصير، يدعو الإرشاد الرسولي رجال الدين المسيحي إلى استخدام اللغة العربية في مراسلاتهم وصلواتهم ومجامعهم المقدسة، فهل هناك انفتاح أوضح من هذا؟، وهل هناك جلاء في دعم للشخصية الوطنية أجلى من هذا الموقف؟، ثم، أليس استلام البابا نسخة عن العهدة العمرية من مفتي لبنان سوى انفتاح ذهني محترم علينا تقديره حق قدره؟.
- دعوة الإرشاد الرسولي إلى التخلص من الأصولية الدينية واستئصالها، هي دعوة ينادي بها حتى الكثيرون من المسلمين، الذين شوهت الأصولية العمياء سماحة دينهم الحنيف، فصورته للآخرين على أنه مصدر الرغبة في القتل ومعاداة الآخر، دون أية أسباب مبررة – مع أن العداوة والقتل لا يمكن أن يبررا – ،ومن دعوة البابا هذه لم أفهم أنه يقصد المسلمين فقط، بل هو يدرك أيضاً أن الأصولية هي داء ينخر جسد جميع الأديان، وكما أن هنالك أصوليين مسلمين، فهنالك أيضاً أصوليون مسيحيون، هما بمثابة النار والزيت: معاً يشعلان الحريق، ومعاً يلتهمهما في نفس الوقت.
- في القضية الفلسطينية: يدعو الإعلان الرسولي إلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية على القضية الفلسطينية، إن بخصوص القدس أو بخصوص عودة اللاجئين، وهل يطالب الفلسطينيون بغير هذا، وهل بهذا يكون البابا فلسطينياً أكثر من بعض الفلسطينيين؟.
- أخيراً: هل سيبقى بعض المسلمين غير راضين عن البابا، مهما فعل، ما لم يعلن ارتداده عن المسيحية واعتناقه الإسلام؟، وهل هذا هو التسامح الذي دعا إليه الإسلام ونتحدث عنه نحن المسلمون بتباه واعتزاز، ونردد (لكم دينكم ولي دين) و (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) و(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، والأهم من ذلك أننا، بدافع من تعصب بغيض من بعضنا لا ينتج سوى البغضاء والشحناء، ننسى أو نتناسى الآية الواردة في بداية هذا المقال بأن النصارى هم أقرب الناس مودة لنا نحن المسلمين؟ نردد جميع الآيات السالف ذكرها دون أن نفسح لها مجالاً لكي تُمارس على أرض الواقع. ثم إذا كان المسلمون يثقون بأن دينهم هو خاتم الأديان، وأن الله حفظ قرآنه من التحريف والزوال، فلماذا يخافون من تبشير الآخرين بدينهم؟، ألم يعمل المسلمون على نشر دينهم في كافة أصقاع الأرض، فارتفعت مساجدهم ومآذنهم في كل زاوية وركن، حتى على أعتاب الفاتيكان؟.
- أخيراً: هناك تساؤل طرحته على بعض الإخوة المسيحيين، فلم أحظ بجواب: لماذا لا ينقل الفاتيكان مقره البابوي إلى القدس، فيعطيها بذلك المكانة التي تستحقها في الضمير المسيحي، بل والإسلامي أيضاً، وبذلك يمنع تهويدها، الذي – بهمة المتخاذلين –، أصبح قاب قوسين أو أدنى؟، ولئن عجز عن الإجابة من سألتهم، فليتلطف أحد بالإجابة عنهم.
أنا عن نفسي – وأتمنى أن يشاركني الكثيرون – أرسل تحية تقدير واحترام وشكر إلى الحبر الأعظم، وأعتبر أن إرشاده الرسولي هذا سيبقى وثيقة تاريخية تعد فخراً للبابا بنديكتوس خاصة، وللمقام البابوي بشكل عام، تدعو إلى محبة وتعاون وإخاء جميع مؤمني الشرق، مسيحييه ومسلميه، لكي يبقوا جميعاً يداً واحدة على الدوام، أمام جميع الأخطار التي تهددهم معاً.
No comments:
Post a Comment