بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين لجريمة الانفصال
(1961-2012):
لم تكن تلك الليلة من شهر سبتمبر1961 كباقي الليالي التي مرت على دمشق في
تاريخها الوسيط والحديث، ففيها اجتمعت ثلة من سبعة وثلاثين ضابطاً سورياً، تتآمر
لتنفيذ انقلاب قذر على دولة الوحدة، بترتيب من الخائن المقدم عبد الكريم النحلاوي والذي عمل مديراً لمكتب عبد الحكيم عامر، وكان في الثالثة والثلاثين من العمر، إذ
أنه من مواليد حي قبر عاتكة في دمشق عام 1928)، ففي الصباح الباكر من ذلك اليوم تحركت
فرقة من دبابات الجيش بقيادة حيدر الكزبري وموفق عصاصة وعبد الغني دهمان، لكي تنهي
حلماً عمره عمر التاريخ العربي بأكمله.
وحدة مصر وسوريا: كان حلم الوحدة العربية يداعب خيال جميع الناطقين بلغة الضاد، لكن
سقوط جميع الدول العربية في براثن الاستعمارين البريطاني والفرنسي، باستثناء
السعودية واليمن، حال دون تحقيق ذلك الحلم،ومع ذلك، ورغم سيادة النفوذ الغربي على
الأرض العربية، فقد تأسست جامعة الدول العربية في أوائل عام 1945، عندما وقِعَ
بروتوكول الاسكندرية من قبل رؤساء سبع دول عربية، ست منها آسيوية، ومصر من الجناح
الأفريقي، ورغم كل ما قيل عنها من أنها مشروع بريطاني يضمن السيطرة على الدول
المنضوية تحته، إلا أن ميزة أن يجتمع المندوبون والرؤساء، ولو بصورة دورية، كانت
أمراً لا بأس فيه. غير أن حلم الوحدة لم يقترب من التحقق إلا بعد قيام ثورة يوليو
المصرية عام 1952، والانتصارات الباهرة التي حققتها بقيادة جمال عبد الناصر، والتي
كانت العامل الحقيقي الذي جمع العرب من المحيط إلى الخليج خلف قيادته، ففي خلال
أربع سنوات تولى عبد الناصر فيها القيادة، بعد عزل محمد نجيب عام 1954، كسب سلسلة
من المعارك المبهرة، والتي بدأت بتوقيع اتفاقية جلاء البريطانيين عن قاعدتهم في
قناة السويس في أكتوبر 1954، مروراً بكسر احتكار السلاح الغربي عن طريق صفقة
الأسلحة التشيكية عام 1955، ثم تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 رداً على سحب
الولايات المتحدة تمويل السد العالي، ثم الانتصار الذي حققته مصر بالصمود الأسطوري
أمام العدوان الثلاثي (بريطانيا – فرنسا – إسرائيل ) مع نهاية عام 1956، وكان
الحدث الأخير، أي العدوان الثلاثي، هو الذي رفع درجة حرارة توجه العرب إلى الوحدة
مع مصر، وذلك عندما وقف الجميع معها ضد ذلك العدوان، خاصة في سوريا عندما قام
الضباط السوريون بنسف خطوط نقل البترول إلى ميناء طرابلس اللبناني وميناء بانياس
السوري، كما أن استشهاد الضابط البحري السوري (جول جمّال) خلال معركة بحرية مع
البوارج الفرنسية، وإغراقه البارجة (جان دارك) قبالة الاسكندرية، كانت جميعها من
العوامل التي قربت بين البلدين لتحقيق الوحدة، كذلك فإن الوضع داخل الجيش السوري
بانقسام الولاءات فيه بين أحزاب متنافرة (البعث – الإخوان المسلمون – الشيوعيون –
القوميون)، وازدياد التنافس الدولي على سوريا، خاصة من قبل حلف بغداد الذي تقوده
بريطانيا، فعندما وجدت النخب الحاكمة وقيادات الجيش في سوريا نفسها محاصرة من
الجنوب بالمملكة الهاشمية، ومن الغرب في لبنان بنظام كميل شمعون الموالي للغرب، وبالعراق
وتركيا عضوي حلف بغداد من الشرق والشمال، عندها كان لا بد من اللجوء إلى مصر ممثلة
بقيادة جمال عبد الناصر الظافرة للخلاص من الأزمتين الداخلية والخارجية، وبعد
محادثات مطولة مع عبد الناصر، جلس فيها الضباط السوريون على الأرض، وأخبروا عبد
الناصر أنهم لن ينهضوا عنها ما لم يوافق على الوحدة، تمت الموافقة عليها. كان رفض عبد
الناصر للوحدة يقوم على أساس أن ظروفها لم تنضج بعد، وأنها ينبغي أن تكون متدرجة
وليست اندماجية، لكن مع إصرار السوريين وافقت مصر على الوحدة مع سوريا، والتي
أعلنت رسمياً يوم 22 فبراير 1958، وبهذا تحقق أمل راود نفوس وقلوب العرب مئات
السنين، وشعرت إسرائيل بأن فكي الكماشة قد أطبقا عليها من الشمال والجنوب، واندحر
حلف بغداد بسقوط النظام الملكي في العراق بعد أقل من خمسة أشهر من قيام الوحدة
(ثورة 14 تموز 1958)، وسقط نظام كميل شمعون، وتضعضع النظام الأردني، ونهضت ذكرى
صلاح الدين الأيوبي من ضريحه، وتلبست نفوس الناس وأرواحهم، أولئك الذين آمنوا بأن
تحرير القدس لن يتم بدون توحيد مصر مع سوريا، تماماً كما فعل صلاح الدين، واستقبل
عبد الناصر بعد يومين من إعلان الوحدة استقبالاً لم ولن تشهد دمشق مثيلاً له ( بعد
ذلك أصبحت زيارات عبد الناصر إلى سوريا مفاجئة دون إعلان مسبق لأسباب أمنية، وأذكر
أنني التقطت في إحدى المرات على موجة الراديو القصيرة مكالمة لاسلكية تقول بأن عبد
الناصر سوف يصل مطار المزة بدمشق عصر ذلك اليوم).
اليوم الأسود: في الساعات الأولى من صباح الخميس 28/9/1961، استيقظنا في دمشق على
أنباء انقلاب عسكري، فاندفع الناس إلى الشوارع في بلبلة كبيرة، لا تصف حالهم سوى
الآية الكريمة (مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء – سورة
إبراهيم 43)، نتلفت حولنا فلا نرى سوى سيارات الجيب العسكرية تجوب الشوارع بسرعة
كبيرة، وتجمعات متناثرة من الناس هنا هناك حول أشخاص يحمل كل منهم مذياع
ترانزيستور،،، في الشارع الواصل بين جسر فكتوريا وساحة الحجاز، ومقابل سينما
العباسية، كان هناك فندق يحمل اسم (فندق بردى). ما كدنا نصل تحت شرفة الفندق حتى
توقف أمامه جيب عسكري يحمل أربعة من رجال الشرطة العسكرية دلفوا بسرعة بوابة
الفندق، في هذه الأثناء كان هناك ثلاثة ضباط مصريين واقفين على الشرفة بملابس
النوم، وما هي إلا لحظات حتى هبط الأربعة يقتادون الثلاثة إلى سيارة الجيب،
وانطلقوا بهم بسرعة كبيرة،،، في شارع النصر كانت هناك مظاهرة معظم أفرادها من سكان
حي الأكراد، كانوا ينددون بعبد الناصر والوحدة،،، في هذه اللحظات استمعنا إلى آخر
بيان ( رقم 9 ) من مجلس قيادة الثورة، وفيه يتراجع الانقلابيون عن مطلب الانفصال،
بل يتوجهون بطلب إلى الرئيس عبد الناصر لكي يقوم ببعض الإصلاحات، ومن ضمنها الحد
من نفوذ الضباط المصريين في الإقليم الشمالي (والواقع يفيد بأن هذه الحجة باطلة،
إذ لو كان للضباط المصريين نفوذ قوي، لما تمكن 37 ضابطاً سورياً، بترتيب من الخائن
عبد الكريم النحلاوي، من تنفيذ الانقلاب). عندها، بعد سماع إذاعة البيان رقم 9 ، تحولت
المظاهرة المذكورة خلال ثوانٍ إلى مظاهرة تأييد الوحدة والهتاف بحياة جمال عبد
الناصر، لكن عندما أذيع البيان رقم 10 الذي أعلن فشل المفاوضات مع عبد الناصر،عادت
المظاهرة المنافقة للتنديد بالوحدة وزعيمها، وأظن أن البلاغ رقم 9 كان مناورة
مكشوفة لكي تلقى مسؤولية الانفصال أمام الجماهير العربية على كتف عبد الناصر.
الأسوأ الذي حدث في ذلك اليوم كان الإنذار
الذي وجهه الانقلابيون إلى جميع المصريين المقيمين في كافة أنحاء سوريا طالبين
منهم مغادرتها خلال 24 ساعة، وهؤلاء كانوا
مدرسين وموظفين وضباط وعمال، فكان على جميع هؤلاء التصرف بممتلكاتهم الشخصية وأثاث
منازلهم ضمن هذه المهلة القصيرة عن طريق البيع بأبخس الأثمان، وفي اليوم التالي
29/9 اكتظ شارع النصر، الواصل بين ساحة الحجاز وسوق الحميدية، بمئات حافلات نقل الركاب
الداخلي، والتي أقلت جميع المصريين إلى ميناء بيروت، حيث غادروها إلى مصر على ظهر
البواخر المصرية.
ومنذ ذلك اليوم الأسود، دخلت سوريا في
النفق الذي تحاول اليوم الخروج منه بلا جدوى، فقد مهد الانفصال إلى وصول البعثيين
إلى السلطة، وكم كان من المذل لهذا الحزب الذي يدعي العمل من أجل الوحدة، أن اثنين
من أهم مؤسسيه، وهما صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني، وقعا على وثيقة الانفصال،
أما ميشيل عفلق، فقد نقل عنه قوله: (الانفصال شر لا بد منه)، غير أن ما فعله هؤلاء
الثلاثة لم ينتج عنه سقوط الوحدة فقط، بل كان ذلك إيذاناً بسقوط الحزب نفسه،
وطردهم بصورة مذلة خارج سوريا، بل وخارج الذاكرة القومية العربية.
إن تلك الجريمة التي ارتكبها الخائن المدعو عبد الكريم النحلاوي (وهو على ما أعتقد يعيش في الولايات المتحدة
حالياً)، بصفقة تآمرٍ قبض ثمنها مسبقاً من دولة خليجية*، هي جريمة العصر العربي
التعيس، والتي لولاها لكان الحال غير الحال. وفي هذه الذكرى البائسة، ألا يحق لنا
أن نعيش لحظات سعيدة، وذلك بأن نتخيل أوضاعنا المعاصرة على طريقة (ماذا لو؟)؟.
فلو سألنا: ماذا لو فشل الانقلاب واستمرت
الوحدة؟ : لكان العراق سينضم إليها عاجلاً أم آجلاً، وسوف تقوم الجمهورية العربية
الأردنية مكان المملكة الأردنية لكي تنضم إلى دولة الوحدة، وسوف يعود لبنان إلى
حضن سوريا، كما كان قبل فرض الانتداب الفرنسي عليه، فيحكم الطوق على إسرائيل من
جهاتها جميعها، وسيكون البترول العربي تحت سيطرة ملكيات وإمارات تأتمر بأمر
الجمهورية العربية المتحدة، ولن تقع حرب 67، أي لم تكن سيناء والجولان لتقع بيد
إسرائيل، ولن يصل حزب البعث إلى حكم سوريا (ذلك أن قيام اثنين من مؤسسيه بالتوقيع
على وثيقة الانفصال قد أثبت أنه لا يؤمن فعلياً بالوحدة، بل يسعى للوصول إلى
الحكم)، وبمرور الأيام كانت دولة الوحدة ستتدحرج لتكبر ككرة الثلج، وسيسودها نظام
لا مركزي يجعل من انفصال أي قطر بحكم المستحيل. عندئذ كيف كان سيكون عليه حال
إسرائيل؟.
هنا يبدو هذا التخيل كما لو أنه حلم ليلة صيف،
كان يمكن أن يكون حقيقة فقط لو أن والدة النحلاوي قد أجهضت به وهو ما زال جنيناً،
أو لو أنها لم تكن قد تزوجت أصلاً.
تلك الليلة، ليلة الثامن والعشرين من
سبتمبر 1961 كانت بالفعل ليلة القبض على الوحدة، أمل العرب في مستقبل حر كريم، ضاع
منهم على يد خائن وضيع.
لكن، ليت الثامن والعشرين من سبتمبر قد
اكتفى بحمل ذكرى الانفصال البائسة فقط، بل شاءت الإرادة الإلهية أن ينتقل جمال عبد
الناصر إلى جوار ربه في الساعة السادسة مساء من يوم الثامن والعشرين من سبتمبر
1970، وفي الذكرى التاسعة للانفصال، لكي يبقى هذا التاريخ عالقاً في قلوب وضمائر كل قومي عربي، يذكّره
باسم من بنى الوحدة لكي يترحم عليه، وباسم من خانها لكي يصب اللعنات فوق رأسه.
*- عندما لجأ الملك سعود بن عبد العزيز إلى
عبد الناصر، بعد أن طردته أسرته، سأله عبد الناصر كيف يدفع سبعة ملايين جنيه
لتدبير مؤامرة الانفصال، فرد عليه:( لا، طال عمرك، كانت اثنى عشر مليون جنيه،
وليست سبعة ملايين).
No comments:
Post a Comment