Monday, September 24, 2012

دور الجغرافيا في تطور الإسلام السياسي المعاصر


مما لا شك فيه أن التوثيق في الكتابة عنصر هام من عناصر مصداقيتها، وبإشارته إلى مراجع البحث المستخدمة في تحرير موضوع ما، يرفع الكاتب عن نفسه شبهة الرأي الشخصي في ما يكتب، وهو ما يضعف من مصداقيته، ويشكك في صدق نواياه، لكن هناك مواقف فكرية يمكن لها أن تستغني عن المراجع، ولو استثناء، من ذلك مثلاً الشهادة في المحاكم، حيث يكتفى بها بحلف اليمين لكي تصبح الشهادة معتبرة قانونياً وأدبياً، كما أن كتابة تقرير عن الأحوال الجوية، وتطور حالة الطقس خلال أسبوع قادم، لا يستدعي من كاتبه الرجوع سوى إلى أرقام تتعلق بدرجات الحرارة والضغط الجوي وسرعة الرياح واتجاهاتها، ومراجعة الدرجات المسجلة عبر سنوات سابقة، وهذه الأرقام جميعها لا يترتب على كاتب التقرير ذكرها، وهنا لا يشكك أحد في نوايا راصد الأحوال الجوية، لأنه ليس للنوايا أي دور في صدور تقرير التنبؤ بحالة الجو. والتقرير التالي هو رصد للحالة الإسلامية التي كانت سائدة في العالم العربي في مراحل تاريخية سابقة، وصولاً إلى استنتاج ما يمكن أن يكون عليه حاله بعد ربيعه، يعتمد الاستقراء والاستنتاج وربط الأحداث فيما عايشه المرء، إن بتجربة شخصية مباشرة، أو بمراقبة ما يجري، أو بتحصيل المعلومة من مصادرها العامة (كتب، مقابلات شخصية، وسائل إعلام).

إن متابعة التطور الاجتماعي والسياسي والفكري في جناحي الوطن العربي، الآسيوي والإفريقي، هي من الأمور الممتعة في دراسة وفهم تطور العالم العربي خلال القرن الماضي، وبخاصة أثر الجغرافية في التطور الذي طرأ على الإسلام السياسي. ولعل البدء بموضوع الخشية من وصول الإسلاميين إلى الحكم يكون هاماً وحساساً في هذه المرحلة بالذات. فلو تمعنتَ في مظاهر التخوف من الإسلاميين، لوجدتَها منصبة على مفاصل محددة من الحياة العامة، يتصدرها الخشية من اضطهاد المرأة، بعزلها عن المشاركة في الحياة العامة بحجة عدم الاختلاط (وظائف – مناصب – تعليم – مشاركة سياسية)، أو فرض زي معين، عليها ارتداؤه خارج البيت، أما في المجال الفكري من أدب وفن، فيضع أصحاب هذه المجالات أيديهم على قلوبهم خشية التضييق عليهم في ميادين الإنتاج الفكري والفني، مما يهدد بالقضاء على موهبة الإبداع عندهم، أما الحديث عن مواقف الإسلاميين من الاقتصاد، والسياسة، ونظافة اليد، والحرص على القيم الأخلاقية، ومحاربة مظاهر التحلل والفساد، وحرية الوطن أمام الهيمنة الخارجية، فلا يتكلم عنها أحد، وكأنه لا يجوز الاقتراب من إيجابيات ربما يأتي بها الإسلاميون إذا ما تمكنوا من الوصول إلى الحكم، ولربما يصلح هذا التقديم كمدخل لاستبيان الفوارق بين الإسلاميين العرب في جناحي الوطن العربي الكبير، والتي كان للإقليم الجغرافي يد طولى في صياغتها، بل والتحكم بمخرجاتها، والتنبؤ بما يمكن أن يكون عليه حالهم إن هم وصلوا إلى الحكم.

يقول صحفي وسياسي عربي مخضرم:( إذا أردت الحديث في السياسة، فضع أمامك خارطة)، وهذا القول الموجز يختصر شرحاً مطولاً عن أثر الجغرافية في صنع التاريخ البشري، فمن أهم مظاهر تأثير الجغرافيا في الحياة العامة هو فعلها في تطور الإسلام السياسي في مشرق الوطن العربي ومغربه. وباديء ذي بدء، ربما يميز الحركة الإسلامية في المشرق العربي اقترانها بالوهابية المتزمتة، المذهب الذي تبنته الدولة السعودية منذ بداية نشوئها في منتصف القرن الثامن عشر (1744م)، وفي عاصمتها الدرعية، وهي الدولة التي خاضت صراعاً مريراً مع الدولة العثمانية المتمثلة في والي مصر محمد علي باشا، فاقترن السعودي السياسي، بالوهابي الديني. وفيما بعد، وعندما توحدت المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود في بداية ثلاثينيات القرن الماضي (سبتمبر 1932)، أُعطيت الدعوة الوهابية مكانة الصدارة في الدولة السعودية، تلك الدولة التي استعانت برجالات السياسة الشوام (من بلاد الشام الأربعة) لبناء أسسها الإدارية والسياسية والاقتصادية، فبرز من بين هؤلاء رشاد فرعون ومنير العجلاني وأحمد الشقيري على سبيل المثال، وآخرون كثر، وقد كان للوجود الفرنسي والبريطاني في بلاد الشام بعد طرد العثمانيين منها أثر في هجرة السياسيين إلى السعودية، حتى قبل أن يتم استخراج البترول مع بدايات الحرب العالمية الثانية، فيطمع في فيضه الآخرون، ورغم نشوء حركة الإخوان المسلمين السورية في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي متتبعة خطى إخوان مصر، إلا أنه لم يكن لها شأن يذكر في النضال ضد الوجود الفرنسي، ولا تأثر بالخط الفكري الوهابي. وفي ما بعد الاستقلال عن فرنسا، هجر الزعماء السوريون، وبالخصوص الإخوان المسلمون، بلدهم نتيجة الانقلابات العسكرية المتتالية، وتسلط الجيش على الدولة، فكان هؤلاء سنداً وعوناً للملك عبد العزيز وأولاده من بعده، فتأسست في السعودية قاعدة شامية قوية، حصل معظم أفرادها على الجنسية السعودية، والتي كان الحصول عليها سهلاً حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، هذه القاعدة الاجتماعية السورية أصبحت موئلاً للسوريين الذين اضطروا إلى مغادرة بلدهم هرباً من الاضطهاد السياسي، خاصة بعد ثورة 8 آذار 1963، وتولي حزب البعث السلطة، حيث امتُهِنَ التيار الديني، ومنعت الصلاة وتربية اللحية في الجيش، وانتشر بين أفراده موبقات لا يمكن قبولها في جيش دولة نص دستورها على أن دين الدولة هو الإسلام، ففي شهادته على العصر، اعترف أمين الحافظ، رئيس الدولة السورية في منتصف ستينيات القرن الماضي، بأن ضباط الجيش السوري في جبهة الجولان قبيل حرب 67 ، كانوا يعاقرون الخمر ويلعبون القمار، لكنه برأهم من معاشرة النساء!، وأصبحت محاربة مظاهر التدين، بما فيها الحجاب – الذي يستر شعر المرأة فقط دون وجهها -، ممارسة معروفة لجميع السوريين، وانتشرت الرشوة والفساد الإداري، وقد كان من المتعارف عليه في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين أن من يضطر إلى مغادرة سوريا تحت ضغط وملاحقة الدولة السورية، كان يستقر في السعودية، وخاصة من شباب الإخوان المسلمين في أقطار الشام، وهناك كان لابد لهؤلاء من التأثر بالتيار الديني للحركة الوهابية، فاعتنقوا أفكارها، وانصهروا في طروحاتها، ونقلوا ما تبنوه إلى عائلاتهم وأصدقائهم في بلدهم الأصلي، خاصة في سوريا والأردن. ونظراً لتزمت الفكر الوهابي، وتكفيره غيره من المسلمين، فقد نظر القوميون والعلمانيون، بل وحتى المعتدلون من المسلمين، إلى هؤلاء على أنهم رجعيون، يريدون فرض مذهبهم بالقوة إن هم وصلوا إلى الحكم، وقد كانت نقطة الافتراق الرئيسية بينهم وبين الدولة السورية في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، والتي تميزت بمجزرة حماة وتدميرها على رؤوس سكانها بحجة القضاء على حركة الإخوان المسلمين، والذين كانت أجهزة الدولة تسميهم (إخوان الشياطين)، وقد توج ذلك بصدور القانون رقم 49 لعام 1980 والقاضي بإعدام كل سوري يثبت انتسابه إلى حركة الإخوان المسلمين. وهكذا فإن التقارب الجغرافي، ووحدة اللغة، ووجود جالية سورية لا بأس بها، كانت من العوامل التي جذبت السوريين إلى دول الخليج العربي وخاصة السعودية، وبذلك اختلط الديني بالسياسي بالاقتصادي في هذه الهجرة، كما أن التخوف من وصول الإسلاميين إلى السلطة في البلدان العربية الآسيوية، يمكن أن يعزى إلى وجود طوائف عرقية من أرمن وآشوريين وسريان وكلدان وأكراد وشركس وتركمان، إلى جانب المسيحيين العرب من جميع مذاهبهم (روم، كاثوليك، أرثودوكس، موارنة إلخ)، وهي الفئات التي يلعب النظام الديكتاتوري على وترها بإثارة مخاوفها إن وصل الإسلاميون إلى الحكم. أما سواحل الجزيرة العربية الشرقية، فقد عرفت الوجود الأوربي منذ القرن السادس عشر عندما احتلها البرتغاليون لوقوعها على الطريق إلى الهند، ثم ورثها البريطانيون فيما بعد، وربما لهذا الأمر يعزى عدم انتشار الوهابية في إمارات ومشيخات الخليج العربي، حيث لا يوجد في تاريخ الوهابية ما يشير إلى حملها السلاح ضد أية قوة أجنبية، ولم تصطدم مع أية قوة استعمارية، ذلك بسبب نشوئها وسط بحر من الرمال عزلها عن محيطها الجغرافي، مما نتج عنه عدم وجود قوات احتلال أجنبي على أراضي المملكة، وبسبب التقارب المبكر بين مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبد العزيز مع بريطانيا إبان نشوب الحرب العالمية الأولى وتوقيعه معها معاهدة* تعاون وصداقة، كما وصل الأمر بالمرحوم الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي السعودية أثناء حرب الخليج الثانية، أن أفتى ”بجواز الاستعانة بالكفار والمسيحيين للدفاع عن أرض الإسلام!”. غير أن القشة التي قصمت ظهر بعير الحركة الإسلامية بشكل عام، كان دعم السعودية، وفي ركابها الحركة الوهابية، لحكومة حركة طالبان – الحاضنة العقائدية والسياسية لتنظيم القاعدة – حيث لم يكن يعترف بحكومة طالبان سوى دول ثلاث: السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وباكستان.

يبقى أن العراق، وبسبب وجود أغلبية مسلمة شيعية، والعديد من الأقليات العرقية والدينية، وانتشار أفكار الحزب الشيوعي منذ فترة مبكرة ( بدأت أفكاره بالتشكل منذ بداية عشرينيات القرن الماضي وأعلن تأسيسه رسمياً عام 1935)، فقد انعدمت فيها التيارات الدينية السياسية، أما حركة الإخوان المسلمين العراقية فقد تأخر ظهورها حتى عام 1960 تحت اسم (الحزب الإسلامي العراقي)، لكن تم حله بعد سنتين فقط من إعلانه.

أما مصر، الرابط الطبيعي بين الجناحين الآسيوي والأفريقي، فإن النمو السكاني المطرد، وتدني فرص العمل، قد دفعت بعشرات الآلاف من المصريين إلى البحث عن فرص عمل لهم في السعودية وباقي دول الخليج، ورغم أنه لم يكن للمصريين باع كالذي كان للشوام في تأسيس وإدارة الدولة السعودية، إلا أن وضع بعض خبراء الحقوق والاقتصاد إمكاناتهم في خدمة الدولة السعودية كان أمراً ملحوظاً، وإن لم يكن بحجم المساهمة الشامية، وكما حدث للشوام وقع للمصريين من حيث التأثر بالفكر الوهابي، الذي بدأ هو الآخر بالتسلل إلى الديار المصرية، وبدأ المصريون كذلك في الشك بالإسلاميين إن هم استولوا على الحكم من أن يطبقوا ما كانوا اعتادوا عليه عندما كانوا في السعودية، إلا أن وجود الأزهر بوسطيته، وافتراقه المبكر عن المذهب الوهابي، قد عدل الكفة مع المتطرفين المصريين، حتى وصل الأمر ببعض الأزهريين إلى انتقاد المذهب الوهابي علناً، وعلى وسائل الإعلام، ناهيك عن أن الصراع المصري – السعودي الوهابي منذ غزا محمد علي باشا بلاد نجد والحجاز، ودمر الدولة السعودية الأولى بدخول عاصمتها الدرعية في سبتمبر 1818م، وإرسال إمامها عبد الله بن سعود لكي يعدم في الأستانة، هذه الخلفية التاريخية لا شك حملت، وما زالت تحمل بصماتها على العلاقات السعودية – المصرية، ربما حتى يومنا هذا، كما أن من بين العوامل التي حمت مصر من تغلغل الفكر الوهابي فيها كان نشوء حركة الإخوان المسلمين – ربما كردة فعل على إلغاء أتاتورك الخلافة – ، ومساهمتها في العمل العسكري ضد الوجود البريطاني في قناة السويس، والقتال على أرض فلسطين ضد العصابات اليهودية، مما أعطاها وجهاً وطنياً ونضالياً ميزها عن الحركة الوهابية.

نخلص إلى القول أن ارتباط الإسلاميين السوريين والمصريين بالحركة الوهابية عن قصد، أو لأن الظروف ألجأتهم إليه، كان سبباً مباشراً لبث الخوف في نفوس المصريين، إلى حد ما، والسوريين، إلى حد كبير، من نتائج وصول إسلاميي بلادهم إلى السلطة، وهو بطبيعة الحال نتيجة للتقارب الجغرافي بين هذه الأقاليم.

أما في شمال أفريقيا فالقصة مختلفة تماماً عن المشرق العربي، إذ أن كياناتها السياسية الحالية كانت قد تأسست منذ فترة مبكرة، ففي الوقت الذي كان فيه المشرق العربي مقسماً شذر مذر بين أمراء من الفرس والترك استقلوا عن مركز الخلافة في بغداد، ثم وقوع المنطقة تحت مطارق الغزو المغولي والتتاري، ثم الغزو الصليبي، في هذا الوقت كانت حركات الأغالبة والأدارسة والموحدين والمرابطين والفاطميين الإسلامية ترسم خرائط دول ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، أما السيطرة العثمانية على هذه البلدان، فكانت قد انحسرت عنها في فترة مبكرة من القرن التاسع عشر بسبب بعدها الجغرافي عن الأستانة حاضرة الخلافة، ولم يتبق للخليفة العثماني سوى الشكل الإسمي فقط عن طريق مباركة تعيين دايات الجزائر (جمع داي) وبايات تونس (جمع باي)، وبقيت قلوب المغاربة معلقة بالباب العالي عاطفياً كونه يمثل دولة الخلافة. وقد قامت مساجد بلدان المغرب العربي مقام الجامعات الدينية، كمسجد القرويين في فاس، والزيتونة في تونس، وجامع عقبة في القيروان، وزوايا الحركة السنوسية في ليبيا، هذه المساجد والزوايا التي خرَّجت مجموعة من رجال الدين المعتدلين، الذين لم يتسموا بسمة تطرف الحركة الوهابية، رغم أن معظم شيوخ وطلاب هذه المساجد كانوا قد وفدوا الديار المقدسة للحج والعمرة، وربما مكثوا فيها سنوات يقرأون على مشايخ الحرمين في مكة والمدينة، ولا شك أنهم اطلعوا على المذهب الوهابي إلى جانب المذاهب الأخرى، ولأن الوهابيين لم يكونوا بعد قد وسعوا نفوذهم السياسي لكي يضموا المدينتين المقدستين (تم ذلك حوالي العام 1925م)، لذا كان المذهب الوهابي يُدرَّسُ في الحرمين الشريفين أسوة بباقي المذاهب، دون تفضيله على غيره كما هو واقع الآن، لذا لا يُعرف أن أحداً من هؤلاء قد عمل على نشر الوهابية في شمال أفريقيا.

بعد احتلال بلدان المغرب العربي من قبل فرنسا (الجزائر 1830 – تونس 1881 – المغرب 1912 – مع إسبانيا – موريتانيا 1902 ) وإيطاليا ( ليبيا 1912) قويت شوكة الحركة الدينية في هذه البلدان كردة فعل طبيعية على حركة التغريب، وخاصة الفرنسة في كل من الجزائر وتونس، ففي ليبيا نشطت السنوسية في تعليمها الديني ومحاربة الإيطاليين، وكان أحد أبرز وجوهها شيخ المجاهدين عمر المختار، ونهض في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، وكان قد تخرج من جامعة الزيتونة بتونس، والذي زار الأماكن المقدسة وقابل هناك البشير الإبراهيمي، الذي سيكون شريكه في وضع أسس الثورة الجزائرية ضد الوجود الفرنسي، أما في المغرب فقد كان عبد الكريم الخطابي، زعيم المقاومة ضد الوجود الإسباني، من خريجي جامعة القرويين بفاس، أما في تونس فقد خرجت جامعة الزيتونة رواد الحركة الوطنية التونسية أمثال عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد وأبو القاسم الشابي، وهكذا نرى بوضوح دور رجال الدين المغاربة في قيادة الحركة الوطنية ضد الاستعمار الغربي. أما في موريتانيا، فقد ساد فيها المذهب المالكي بتأثير علمائه في مسجد عقبة بالقيروان، ونتج عن ذلك بروز دولة المرابطين التي امتد نفوذها شمالاً، وازدادت قوة إلى حد نجدة حكام الأندلس ضد هجمات الإسبان، وكان من نتيجة ذلك إطالة الحكم العربي هناك لمدة أربعة قرون، ولم يعرف عن المالكية الموريتانية أي تعصب أو تحجر في تطبيق الإسلام، ربما لعدم وجود أقليات دينية غير مسلمة.

ونظراً لطول مدة الاحتلال الأوربي للبر المغربي العربي (الجزائر 1830-1962/ تونس 1881-1956/ المغرب 1912 – 1956 / موريتانيا 1902 – 1960 / ليبيا 1912 – 1951 )، لذا فقد قصد الكثير من العمال المغاربة أوربا، واستقروا في الدول التي استعمرتهم، فنشأت جاليات جزائرية وتونسية في فرنسا، ومغربية في فرنسا وإسبانيا، وليبية في إيطاليا، واختلطت هذه الجاليات بمجتمعات بلاد المهجر وأصبحت جزءاً منها، مع تمسكها بتراثها الإسلامي، وإن تكن قد فقدت لغتها الأم – تلك التي حافظ عليها المسجد -، وكون هؤلاء قد أصبحوا، بحكم امتداد الفترة الاستعمارية جزءاً من مجتمعات مستعمريهم، فقد خاضوا مع الأوربيين حروبهم التي شنت عليهم، أو التي شنوها هم (الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحروب المستعمرات). في مرحلة ما بعد الاستقلال ونشوء حكومات دكتاتورية المسلك في دول الشمال الأفريقي، فقد كان من الطبيعي أن يلجأ المطاردون من السياسيين العلمانيين والإسلاميين المغاربة إلى الدول الأوربية، لقربها الجغرافي، ولوجود حاضنة اجتماعية من أبناء بلدهم، فاستقروا هناك فترات طويلة، وكان لا بد لهم أن يتأثروا بالمناخ الديمقراطي السائد في كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وغيرها من الدول الأوربية، ومن هنا كان تبلور الشخصية الإسلامية المغاربية، المعتدة بدينها، والمتأثرة بعمق بالروح الديمقراطية وتقاليدها، والمعتدلة في طرحها، ومن ذلك رأينا حركة النهضة تفوز بالانتخابات التونسية مشاركة مع باقي القوى الديمقراطية، بينما لم تتمكن الحركة الإسلامية الليبية، التي عانت كثيراً من بطش القذافي، أن تثبت وجودها الشعبي في الانتخابات العامة، والمغرب الذي له خصوصية الاعتزاز بالنظام الملكي، تمكن الإسلاميون فيه بطرق سلمية، من الوصول إلى مراكز متقدمة للمشاركة في الحكم.

بعد هذا التقديم المطول، يمكننا استخلاص دور الجغرافية في تطوير وبلورة نقاط الاختلاف بين إسلاميي جناحي الوطن العربي الكبير: الأفريقي والآسيوي، وتطور الإسلام السياسي فيهما، وفهم مبررات مواقف الجماهير من وصول الإسلاميين إلى الحكم:

1- لجوء إسلاميي المشرق إلى دول الخليج، وخاصة السعودية، لقربهم الجغرافي منها، هرباً من بطش حكامهم، وتأثرهم بالمذهب الرسمي للسعودية وهو المذهب الوهابي، بينما استقر الإسلاميون المغاربة في دول أوربية ديمقراطية، لقربهم الجغرافي منها، فانصهروا معها فكرياً، وعادوا إلى بلدانهم بتقاليد المجتمعات الغربية التي أقاموا فيها.

2- وجود عدد كبير من الأقليات الدينية والعرقية في المشرق العربي، وذلك بسبب الجوار الجغرافي بين بلدان المشرق العربي وشعوب غرب آسيا، ولتسامح العثمانيين مع الأقليات والديانات الأخرى**، بينما لعب البحر الأبيض المتوسط حاجزاً طبيعياً حمى بلدان المغرب العربي من تسرب الأقليات الدينية والعرقية إليه، فانصهر سكان شمال إفريقيا بعنصريهم العربي والبربري (الأمازيغ) منذ فترة مبكرة.

3- تجاور الإسلام في الشام والعراق ومصر مع المسيحية الشرقية منذ عهد الفتوحات الإسلامية الأولى، هذه المسيحية التي ينبغي – كونها أصيلة في الوطن – أن يكون لها رأي ومشاركة في نظام الحكم، بينما لم يعرف المغرب العربي وجود أقليات مسيحية، رغم الصراع الذي دار بين المسجد والبعثات التبشيرية للكنيسة الغربية في المغرب العربي، ذلك الصراع الذي حسمه المسجد لصالحه.

4- قامت دول المغرب العربي، وربما بحدودها الحالية، على حركات سياسية إسلامية، كالأغالبة والأدارسة والموحدين والمرابطين والفاطميين، بينما بقيت دول المشرق، نظراً لقربها الجغرافي من حاضرة الخلافة، خالية من مثل هذه الحركات.

5- لعب المسجد والجامعات الدينية دوراً كبيراً في تطور المغرب العربي من جهة الحفاظ على اللغة العربية والتراث الإسلامي وتأجيج الشعور الوطني وقيادة حروب التحرير، بينما لم يكن هنالك أي دور سياسي أو وطني يذكر للمساجد في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية – باستثناء دور الجامع الأزهر في مصر -، لهذا لم ير الناس أية إمكانية لقيام المسجد – بما يمثله من رمزية دينية – بدور سياسي ونضالي فعال.

6- لسبب جغرافي واضح، لم يتح لإسلاميي المشرق الاطلاع على الحضارة الغربية، بينما أتقن المغاربة لغات مستعمريهم الأوربيين، واختلطوا بهم، سواء عندما كان المستوطنون الأوربيون مقيمين في بلاد المغرب، أوعندما انتقل المغاربة إليهم، فتفتحت أذهانهم على تراث وحضارة الغرب، إلى درجة أن كثيراً من الأدباء المغاربة كتبوا أعمالهم باللغات الأوربية، مع اعتزازهم بلغتهم العربية الأم، وبدينهم الإسلام.

7- أخيراً: بهذا يبدو أن الجغرافية، ذلك العنصر الذي يَقهر لا يُقهر، هي المسؤولة إلى حد كبير– من بين عناصر أخرى – عن جميع النقاط المذكورة أعلاه.

والخلاصة: لعبت الجغرافية دوراً لا ينكر في تطور الإسلام السياسي المعاصر، فاستمر في بعض الجهات سلفياً متزمتاً منغلقاً على نفسه، وفي جهات أخرى تجلى بحلة حضارية انفتح بها على الآخر، واقتبس منه الكثير من أساليب الحياة العصرية، ومع ذلك، فما زالت الجماهير العربية، خاصة الأقليات الدينية والعرقية منها، تتخوف من وصول الإسلاميين إلى الحكم خشية سيادة نظام لا يعترف بالآخر، ولا يسمح بتداول السلطة، ويتعنت في تطبيق الإسلام على الطريقة السلفية المتزمتة، بينما يبرر الإسلاميون أحقيتهم بالحكم على أساس أن القوميين قد أخذوا فرصتهم لما يزيد على الستة عقود من الزمن في السلطة، دون أن يحققوا سوى فشل بعد فشل، وحكم الشيوعيون كذلك، فلم يكونوا أحسن حالاً من القوميين، لذا: أفلا يحق للإسلاميين أن يأخذوا دورهم؟، ومن ثم ليحكم الناس على تجربتهم، فإن أحسنوا، استمروا في الحكم، وإن فشلوا، فإن للجماهير قوة أدركت كنهها مؤخراً، هي التي ستكون قادرة على الإطاحة بمن لا يطابق فعله قوله، مهما علا شأنه.

==========================
*- معاهدة دارين: وقعها الملك عبد العزيز آل سعود مع بيرسي 
كوكس ممثل الحكومة البريطانية عام 1915 في جزيرة دارين
 المقابلة لبلدة تاروت في المنطقة الشرقية بالسعودية، وقد نصت 
على اعتراف بريطانيا بسلطة السعوديين على الأراضي التي 
استولوا عليها في المنطقة الشرقية ونجد، مقابل تعهد الملك عبد 
العزيز بمحاربة ابن رشيد، أمير حائل الموالي للعثمانيين، لمنعه 
من تهديد الجيش البريطاني في جنوب العراق أثناء الحرب 
العالمية الأولى.
**- وأوضح مثال على ذلك كان موافقة الباب العالي على إقامة 
كيان مسيحي في جبل لبنان عام 1860، وتعيين مسيحي عثماني 
غير تركي عليه، حسب شروط الدول الأوربية، وقد كان داوود 
باشا أول متصرف على جبل لبنان، وهو عثماني من أصل 
أرمني.

No comments: