Saturday, August 25, 2012

إذا أبحرتَ، فلا تنسَ البوصلة


لا شك أن من نِعمِ العلم المعاصر على البشرية ذلك الكم الهائل من المعلومات في شتى ميادين المعرفة، والذي يحفل به العالم الافتراضي على الشبكة العنكبوتية، تلك المعلومات التي تغطي معظم ميادين المعرفة إن لم يكن جميعها. والوقت الطويل، والجهد المضني، الذي كان على من يبتغي المعرفة أن يبذله للوصول إلى المعلومة، قد اختُصِرَ الآن إلى ثوانٍ معدودة لا تكلف المرء سوى الضغط على زر لكي يحصل على ما يريد، أما حجم هذه المعلومات المتوفرة، فقد بلغ حداً خرافياً يتجاوز حدود العقل، فعلى سبيل المثال، وقبل سنة من الآن، كان على موقع “اليوتيوب” ما يعادل 25 مليون ساعة استماع ومشاهدة لمقاطع فيديو بالصوت والصورة، وهو أمر مذهل بكل المعايير، وقس على ذلك باقي المجالات، وفي جميع اللغات.

ولو رغب المرء في تبسيط الأمر، لوجد أن معلومات الشبكة العنكبوتية تنقسم إلى أنواع كثيرة، أهمها ثلاثة رئيسية:

1- النوع العلمي، وهو ذلك النوع الذي لا يجادل في صحته أو خطئه سوى أصحاب التخصص، ولا شك أنهم قلة من زوار مملكة الإنترنت، ونظراً لتوفر إمكانية التعليق عليها، يمكن لمن يناقضها أو يؤيدها أن يأتي بما لديه من الحجة والبرهان العلمي للدحض أو التأييد.

2- النوع الفكري: ولهذا النوع من المعلومات مجال أوسع للمماحكة والرأي والرأي الآخر، يمتاز بهدوء الطرح، واحترام عقول القراء،،، يكتب ويقرأ هذا النوع من المعلومات معظم الناس، ولا يساهم في إثرائه بالنقد والتعليق سوى النخبة من المثقفين ذوي القدرة على ذلك، أما عامة القراء فيأخذون ما يقرأون على علاته، حتى ولو ناقض ما يقرأونه اليوم ما كانوا قد قرأوه بالأمس، إذ هم بإمكانياتهم الذهنية والمعرفية، غير قادرين على نقده أو تعديله.

3- النوع التحريضي: وأتجرأ على توصيف هذا النوع بهذه الصفة لأن ما يرد فيه يمتاز بالتعصب والتشنج وإنكار الآخر،،، هذا النوع يلجأ إلى التشكيك والتتفيه والازدراء لكل ما عداه. لا يرغب في متابعة هذا النوع من الكتابة سوى المنحازين بطبيعتهم إلى رأي أو مذهب أو فكرة بتشنج والتزام فارغين، دون أدنى اعتبار للآراء والمذاهب الأخرى، وهؤلاء، سواء من الذين يكتبون أو الذين يعلقون – وفي سبيل إثبات صحة وجهات نظرهم – لا يتورعون عن الدس والتدليس واختراع أحداث لا يمكن أن تكون قد وقعت سوى في مخيلاتهم، وهم غير مستعدين للنقاش الهاديء والحوار البناء. والكارثة أن هؤلاء ليسوا من أصحاب التخصص، ولا هم قادرين على تمحيص الأمور لاستكشاف الغث منها وتمييزه عن السمين بحيادية توصلهم إلى الحقيقة، وللأسف فإن هذا النوع من المعلومات هو أغزر ما تحتويه الشبكة العنكبوتية، بل هو أخطر أنواع المعرفة المستقاة منها، فهو بتشنجه ولا منطقيته، غالباً ما يؤدي إلى إصابة المجتمعات بالتشقق والتشظي، ويحرض بعضها على البعض الآخر أفقياً وعمودياً، مستخدماً شتى الوسائل بما فيها الوضيعة والمعيبة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بدين أو مذهب أو طائفة، فأصحابها لا يرون أبعد من أنوفهم، ولا يقرون بالصحة إلا لآرائهم ومعتقداتهم، وبالتالي فهم غير مستعدين لاستيعاب الآخر، ولا الاعتراف به، ولا التسامح معه، وما تمحك هؤلاء باحترام الديمقراطية وحرية الرأي سوى وسيلة للتلطٍّي خلف كلمات تنطقها الشفاه دون أن تؤمن بها العقول.

على المنخرطين في هذا النوع الأخير من المعلومات العنكبوتية ينصب اهتمام هذا المقال. وبداية، فالبحار الذي ينوي الخوض في بحر لجيِّ بدون أن يتسلح بخريطة واضحة المعالم وبوصلة صحيحة الاتجاه، لا شك أنه سيضل الطريق إلى الميناء الآمن، وسوف تحمله سفينته التائهة إلى دواماتٍ وعواصفَ تكون فيها التهلكة أمراً محتوماً لا فرار منه، والمقصود بالبوصلة هنا هي مجموعة القيم والمباديء والثوابت التي على المرء أن يتحلى بها، وأن يتمسك بنسقها، وذلك عندما يكتب مضيفاً إلى مخزون العالم الافتراضي معلوماتٍ أو آراءً أو تعليقات، أو حين يتلقى أو يبعث برسالة إلكترونية جادة غير ترفيهية، فبدون هذه البوصلة ذات الثوابت، لن يصمد المرء أمام عواصف الأفكار وأمواج الآراء، بل سيجد نفسه مقذوفاً ذات اليمين وذات اليسار، مصعوقاً بالدوار الذهني، فلا يستقر على قرار، ويصدق كل ما يقرأ، ويدافع عن كل ما يسمع، وينسى ويتنكر اليوم لما قاله وآمن به بالأمس. ذلك أنك تعجب من صديق يرسل إليك اليوم رسالة إلكترونية تجد أن محتواها يتناقض مع ما كان قد أرسله إليك هو نفسه بالأمس، دون أن يكلف نفسه عناء التحقق من صحة ما يرسل، فكأنما هو ساعي بريد ينقل إليك ما يصل إليه، حتى أنه ليصرح بذلك علانية عندما يذيل الرسالة بعبارة (As received )، وكأنه بذلك يبريء نفسه من أي سوء يعتريها أو خلل يتلبسها، وهو بهذا يصدر عن فراغ في الفكر قِيَميّ ومنطقي، لو مُلِيءَ عنده لاستطاع ببساطة أن يهتدي إلى ما يجوز إرساله، وما لا يجوز. ولو اقتصر الأمر على معلومات تتضمن أفكاراً هامشية غير ذات قيمة، لهان الأمر وسهل، أما أن تحمل الرسائل آراءً ومواقفَ متضاربةً تمس بشكل وثيق مصائرَ الناسِ ومستقبلَهم وعقائدهم، وأحياناً كرامتهم، فهذا ما لا يمكن فهمه ولا تبريره. وعلى سبيل المثال لا الحصر، وصلتني ذات يوم رسالة إلكترونية تضم مجموعة صور رُبعُ محتشمة، وقد حملت العنوان: (صور ابنة الأمير الوليد بن طلال)، لكن ببحث لم يستغرق سوى ثوان على الشبكة العتيدة، تبين أن تلك الصور هي للممثلة الشهيرة كرداشيان. هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة يحار المرء في تفسير السبب الكامن وراء تزوير الأمور وتحريفها عن وضعها الصحيح: هل هو جهل وخلط للأمور؟، أم هو تشكيك وطعن في كرامة الآخرين؟، أم هو ليٌّ لعنق الحقيقة بهدف الوصول إلى غاية في نفس يعقوب، (مع أنه عليه السلام كان حسن النية)، أم هو تكريس لمذهب معين، واستهزاء بمذاهب الآخرين؟، هذه وغيرها الكثير من التساؤلات التي لا يمكن إيجاد الجواب الشافي لها. وعلى شاكلة المثال السابق تعثر على ما يشبهه في السياسة والاجتماع والأخلاق، بل وحتى الدين. لكن يقابل ذلك أن هناك من يرسل إليك موضوعاً معيناً، مشفوعاً بتعليقه عليه، سواء بالتثبيت أو التشكيك أو الحيادية، ولكن بأدب جم، لا يمكنك سوى أن تنحني له احتراماً وتقديراً، كما يمكن أن يكلف هذا المرء نفسه أحياناً مشقة أن يرسل إليك بروابط تتعلق بالموضوع نفسه، بعد أن يكون قد جهد في البحث عنها والتثبت منها، تمكنك بدون عناء زيادة التثبت مما جاء في الرسالة، سلباً كان أم إيجاباً.

هذا النوع الأخير من الناس هو الذي ترتاح لتلقي رسائله وتعليقاته بصدر رحب، ذلك أنهم عندما أبحروا في محيطات العالم الافتراضي، لم ينسوا أن يأخذوا معهم البوصلة.


No comments: