Wednesday, August 8, 2012

هل قتلته ونسيت؟


في ليالي الشتاء الطويلة المملة، اعتاد سكان (شيكاغو) قضاء أمسياتهم – خاصة أمسيات عطلة نهاية الأسبوع – في أماكن الترفيه المغلقة، كدور السينما والمسارح والحانات. ولعشقي موسيقى الجاز والبلوز، فقد حرصت – كلما زرت هذه المدينة – على ارتياد إحدى تلك الحانات التي تقدم ذلك النوع من الموسيقى.

عنوان الحانة 2519 شارع كلارك، من بعيد وقبل أن تصلها، تلمح أضواء لافتة كبيرة كتب عليها بأحرف عمودية وأفقية كلمة ( BLUES). في تلك الأمسية كان الثلج يندف في الشارع كأنه فراشات تُحوِّمُ بهدوء حول أزهار الربيع، أو شذرات صوف تتطاير من حول وتر قوس مُنَجِّد، وعلى جانبي الشارع اصطفت بضع حانات ومطاعم، تقف أمامها سيارات أجرة ينزل منها أصحابٌ تتصاعد ضحكاتهم، فتمزق الصمت الذي يلف المكان، وهم يُحكِمون لف أجسادهم بملابسهم الثقيلة، ويدفنون رؤوسهم بين أكتافهم اتقاء البرد الشديد، ونظراً لقرب مكان إقامتي من تلك الحانة، فقد آثرت الذهاب إليها مشياً رغم شدة البرد.

من بعيد لمحت اللوحة المثبتة على واجهتها بأضوائها التي تطفيء وتضيء بتتابع رتيب بين إضاءة اللافتة العمودية ذات اللون الأزرق، وإضاءة اللافتة الأفقية ذات اللون الأبيض، والضوء من كلتيهما ينعكس على الرصيف المبلل فيعطي مدخل الحانة مزيداً من الأبهة والإغراء. هي مبنى يقع على الشارع الرئيسي بواجهة لا تزيد على الخمسة أمتار، أما عمقها فيزيد على الخمسة عشر متراً، يدلف مُرتادها إليها من باب يفتح إلى الداخل، يفضي إلى باب آخر، وبينهما مساحة تعزل داخل الحانة عن خارجها لحفظ حرارتها صيفاً وشتاء. على يمين الداخل هناك نافذتان تطلان على الشارع، وإلى يسار القاعة ارتفعت مصطبة خشبية وضعت عليها بضع طاولاتٍ ومقاعد، وإلى اليمين انتصب حاجز خشبي وضعت أمامه مجموعة كراسٍ مرتفعة، ووراء الحاجز وقفت سيدة تلبي طلبات الزبائن، وعلى الأرفف اصطفت زجاجات الخمر والمياه الغازية والعصائر، أما في الزاوية اليمنى من صدر القاعة فقد نُصِبَت دكة خشبية هي بمثابة المسرح الذي يقف عليه المغني والعازفون لكي يراهم جميع من في الحانة، وعلى جدرانها علقت كمية كبيرة من الصور القديمة لمغني وعازفي موسيقى الجاز والبلوز الذين تعاقبوا على الحانة، ومن السقف تدلت أضواء تضيء وتطفيء بتسارع يتعب العين أحياناً، وتنتهي قاعة الحانة بدهليز مظلم يفضي إلى باب خارجي للطواريء.

دلفت الحانة مسرعاً هرباً من برودة الجو، وشوقاً إلى سماع الموسيقى التي أهوى. دفعت رسم الدخول إلى الرجل المكلف بذلك، والذي سارع إلى إقفال باب الدخول خلفي بحجة اكتظاظ الحانة: ” أنت محظوظ يا سيدي ، لن يدخل هذه الحانة بعدك أحد”، همس الرجل في أذني وهو يحكم إغلاق الباب بالمزلاج.

في الداخل كانت الموسيقى صاخبة، وبالكاد تمكنت من رؤية المغني وفرقته من فوق ومن بين رؤوس رواد الحانة، الذين جلس بعضهم على الكراسي، بينما اكتظ الممر الضيق بالعشرات منهم. كان المغني وباقي أعضاء فرقته يعتلون المسرح في زاوية المكان، كانوا جميعاً من الأمريكان السود: عازف جيتار، وضارب إيقاع، والمغني الذي كان يعلق على رقبته جيتاره، ويرتدي بدلة بنية اللون وقبعة كتلك التي يعتمرها رعاة البقر، وفي أذنيه عُلقت حلقات طويلة، وعلى عينيه نظارة سوداء، بينما وقف على أرض القاعة عازف الأورج، أما عازف الساكسوفون فقد وقف في بداية الممر المعتم في نهاية القاعة. حاولت الاقتراب من المسرح أكثر للتمكن من الحصول على مشاهدة أفضل، ولدهشتي كان كل من يشعر بأنني أقف خلفه، يفسح لي المجال لكي أتقدم أكثر فأكثر، إلى أن أصبحت واقفاً في مقدمة الجمع، مباشرة على حافة المنطقة المخصصة للراقصين، والتي كان فيها بعض الشبان والفتيات، يهتزون ويتمايلون على وقع الموسيقى الصاخبة، فتبدو وجوههم تحت الأضواء الخاطفة كأنها وجوه أشباح ترقص في عرس واحد منها، بينما تقدم من خلفي رجل أربعيني بدين، مربوع القمة، ووقف بجواري وهو يحمل بيده زجاجة خمر يلوح بها متمايلاً طرباً.

إلى جانب استمتاعي بموسيقى وإيقاعات والجاز البلوز، أستمتع أكثر بمتابعة وجوه العازفين وحركات أجسادهم التي تجسد حجم الظلم الذي عانوا منه على يد الرجل الأبيض لمئات السنين، وبينما كنت أتمعن في وجوه أعضاء الفرقة الموسيقية، وعندما بلغتُ قمة استمتاعي بما أسمع وأرى، فوجئت بالرجل البدين الذي كان إلى جواري يسقط فجأة على الأرض، والدم يسيل من خاصرته التي غرست فيها نصل سكين حتى نهايتها، وقد غُطِّيت قبضتها بقفاز من البلاستيك، وبركة من الدم بدأت تتسع حول الرجل لتحيط بجسده كله، والزجاجة التي كان يحملها سقطت وتشظت إلى عشرات القطع. أخذتني الدهشة فتسمرت في مكاني، بينما قفز جميع الحضور بهلع إلى جنبات القاعة: النساء يولولن ويدفن رؤوسهن في صدور الرجال هرباً من هول المنظر، والرجال يصرخون عالياً بفزع: “يا إلهي، مستحيل، النجدة النجدة، اقبضوا عليه”، المغني والعازفون تركوا آلاتهم الموسيقية وقفزوا من على المسرح ودخلوا في الدهليز المظلم، لاحقين بعازف الساكسفون الذي كان قد سبقهم، وأنا بين هؤلاء وهؤلاء أقف في مكاني مفزوعاً لا أدري ماذا أفعل. ما هي إلا ثوانٍ حتى دوت صفارات سيارات الشرطة، وكأنها كانت تنتظر وقوع الجريمة في هذا المكان. كانت ثلاث أو أربع سيارات على ما خمنت ومعها سيارة إسعاف، وفي الحال اقتحم الحانة خمسة رجال شرطة: واحد هرع إلى الدهليز المظلم في آخر القاعة، وواحد وقف على الباب الرئيسي بينما وقف الآخران كلٌّ على نافذة. الخامس منهم، والذي بدا لي أنه رئيسهم، طويل القامة، متين البنية، علق على صدره شارة (شريف)، تقدم إلي شاهراً مسدسه، طالباً مني رفع يدي إلى الأعلى وعدم المقاومة لعدم جدواها، ثم ، وبينما هو ما يزال شاهراً مسدسه، قام بتفتيشي من الرقبة حتى القدمين بحثاً عن سلاح، ولما اطمأن إلى عدم وجوده، أعاد مسدسه إلى جرابه، ثم طلب مني رخصة القيادة (وهي هنا – في بلاد العم سام – تقوم مقام بطاقة الهوية في بلاد العم قحطان). نظر فيها ثم حدَّق في وجهي، وراوح نظره بين البطاقة ووجهي عدة مرات، وبدت على ملامحه استغرابه الاسم واستثقاله قراءته: إذن تضاعفت الورطة، حيث لن تشفع لي عيناي الملونتان وبشرتي البيضاء عند الرجل، أمام ملامحي الشرق أوسطية، ثم طلب مني النطق باسمي، وكرره بعدي عدة مرات بصعوبة بالغة وهو يغالب ابتسامة وجدها لا تليق بالموقف، ثم أعطاني بالوناً لكي أنفخ فيه حتى يعرف نسبة الكحول في دمي إن كانت موجودة، لكنه لم يعثر على أي أثر لها، ثم بدأ يقرأ عليَّ حقوقي التي مللت سماعها في الأفلام الأمريكية: لك الحق في ألا تتكلم إلا أمام محامٍ، كل ما تقوله محسوب عليك، إلى آخر تلك السيمفونية المملة. . . تراجع قليلاً ثم انحنى على الرجل البدين ليجس نبضه، في تلك الأثناء وصل رجلا إسعاف يحملان محفة لنقل المصاب، لكن الرئيس أشار إليهم بيده أن لا فائدة، فقد مات الرجل.

دارت القاعة بي مرات ومرات، ولم أصح إلا على صوت الرئيس وهو يقول: “سوف ننتظر وصول مصور البحث الجنائي لكي يلتقط صوراً للقتيل، وكذلك حضور الطبيب الشرعي”، ثم تابع كلامه بلهجة الحريص على مصلحتي:” أرجو أن تتعاون مع المحققين وذلك بأن تدلي باعترافاتك كاملة حول دوافعك لارتكاب هذه الجريمة، وشركائك فيها، ولا تتردد في الاعتذار عنها، مما سوف يساعد القاضي والمحلفين في تخفيف الحكم عليك”، ثم تابع: “يبدو عليك يا صديقي أنك لا تعلم بأن أحكام الإعدام موقوفة مؤقتاً في ولاية إلينوي، ولكنها قد تُفَعَّلُ في أي وقت، لذا لا تحاول مراوغة المحققين”، ثم نظر إلى السكين المغروسة في خاصرة الرجل الممدد وتساءل: ” وهل بلغ التذاكي بك حداً ظننت معه أن معامل التحقيق الجنائي عندنا، إن لم تجد بصماتك على مقبض السكين، سوف تعجز عن إيجاد بعضٍ من خلايا كفك في باطن القفاز البلاستيكي؟”.

هل يمكن أن أكون قد فعلتها وقتلت الرجل؟. منذ سنوات طويلة عولجت وشفيت تماماً من ظاهرة المشي أثناء النوم، لكنني بدأت فيما بعد أشعر بكثرة النسيان، فعلاوة على أنني بدأت أنسى ماذا تغديت بالأمس، بدأت أنسى فيما إذا كنت قد تناولت طعام الإفطار هذا اليوم أم لا، كما أصبحت أنسى هل تناولت دوائي قبل النوم أم لا، وكثيراً ما كنت أتناوله مرة ثانية دون أن أدري. إذن: هل يمكن أن أكون قد قتلت الرجل ونسيت؟، أم، هل كان قاتله يتربص به، فانتهز فرصة وجودي إلى جواره فطعنه ثم هرب؟. صحوت على صوت الرئيس يسأل الرجال والنساء الذين مازالوا ملتصقين بجدران الحانة وهم مرعوبين: “هل رأى أحدكم هذا السيد – مشيراً إليَّ – يطعن هذا الرجل القتيل؟”، فصاح الجميع بصوت واحد مشيرين بأصابعهم إلي: ” نعم إنه هو”. إذن بدل الشاهِدَين هنالك العشرات، وإمكانية الخلاص من هذا المأزق تبدو مستحيلة. شرد ذهني باتجاه الدعاء إلى الله أن يُحكم عليَّ بالسجن – لا تهم المدة -، لأنني سأتعاون مع المحققين، استجابة لنصيحة رئيس الشرطة، ثم بدأت أفكر بحال السجن الذي سأقضي فيه مدة الحكم ،،، يقال بأن السجون في هذه البلاد محترمة من حيث المأكل والمشرب والملبس والنوم، بحيث يتمنى جميع مجرمي العالم أن يسجنوا فيها، لكن المشكلة تكمن في نزلائها، فغالبيتهم من رجال عصابات تهريب المخدرات والمافيات والجريمة المنظمة والقتلة واللصوص المحترفين، والقتل حتى بين بعضهم البعض داخل السجن لا رادع يردعه، فمما سيخاف من حُكِمَ عليه بالسجن المؤبد؟، وهل سيكون حظي تعيساً إلى الدرجة التي فيها سأصادف هناك سجيناً محكوماً بالمؤبد، كان قد فقد عزيزاً عليه في حادث تدمير البرجين؟ إذن فإن مصيري معروف منذ الآن.

شعرت بالدوار من هاجس التفكير بمصيري الأسود، ذاك الذي قادني إليه عشقي لموسيقى الجاز والبلوز، وأيقنت أن حياتي قد وصلت نهايتها الغير المشرفة، فانتابت جسدي رعشة عنيفة، وبلل العرق وجهي حتى سال على رقبتي، وكدت أسقط ارضاً بجانب الرجل القتيل، عندها شعر الرئيس بشدة حرج موقفي، وخشي علي من عاقبة سكتة قلبية أو دماغية، وفجأة، وبحركة سريعة من يده، أضاءت أنوار كاشفة قوية المكان بأسره، ودوى تصفيق حاد من الرجال والنساء، وخرج العازفون والمغني من الدهليز الذي أضيء الآن، كما خرج منه رجل يضع على أذنيه سماعات كبيرة وهو يصفق بحرارة، وتقدم إلي مصافحاً وهو يقول:” آسفون على إزعاجك، ونشكر وجودك معنا هذا اليوم في حلقة جديدة ناجحة من برنامج الكاميرا الخفية”. نهض الرجل الذي مثل دور القتيل مصافحاً ومعانقاً، وانهمكت مجموعة من العمال في تنظيف الأرضية من بقعة الدم الصناعي وبقايا الزجاج البلاستيكي المتناثر، وعادت الموسيقى تصدح، ولعلع صوت المغني ثانية، وانطلق الحشد الصاخب إلى الرقص من جديد، وكأن شيئاً لم يكن.


No comments: